في عمق الذاكرة الجزائرية، حيث تتقاطع أزمنة الخوف والدم والرجاء، تنبثق شهادة رجلٍ لم يكتب بمداد الحبر فحسب، بل بدم القلب ونبض الوعي الوطني. إسماعين تامعووست، المفتش الذي عرف الميدان أكثر مما عرف المكاتب، خرج من رحم التجربة لا من دفاتر التأمل النظري، ليكتب “مذكرات شاهد على سنوات الجمر” كمن يفتح جرحًا في خاصرة الصمت، لا ليبكي، بل ليمنح الألم معنى. لم تكن المذكرات مجرد صفحاتٍ في سجلٍّ شخصي، بل كانت عودةً واعية إلى تلك المرحلة التي شاء القدر أن تكون امتحانًا للجزائري في إنسانيته، لوطنيته، وفي قدرته على النجاة من نار الداخل دون أن يحترق قلبه بالكره. يكتب تامعووست بشجاعة الذاكرة، وبنزاهة من لم يساوم على الحقيقة حتى وإن أوجعته، فهو لا يختبئ خلف البلاغة، بل يجعل اللغة جسرًا بين الوجع والحكمة، بين الجرح والفهم. في كل سطرٍ من “سنوات الجمر” تتجسد الجزائر ككائنٍ مجروحٍ يئنّ من طعنات أبنائه، ولكنها لا تموت. المذكرات لا تبدأ من الحدث، بل من الإحساس به، من تلك اللحظة التي يتحول فيها الوطن من فكرةٍ إلى جسدٍ مصلوبٍ على أسلاك الخوف والدم. حين يكتب إسماعين “وقفتُ أنا المفتش إسماعين تامعووست في مواجهة عاصفةٍ لم تكن رياحًا بل زلزالًا”، فهو لا ينقل وقائع، بل ينقل ارتجاج النفس أمام انهيار المعنى. في عالمٍ غمرته الكراهية، كان تامعووست يسير على حافة الجنون وهو يبحث عن معنى العدالة في زمنٍ يقتُل فيه الأخ أخاه باسم الله والوطن. المذكرات تُظهره شاهدًا لا متفرجًا، فالشهادة عنده ليست موقفًا عابرًا، بل التزامًا أخلاقيًا بأن يُبقي الحقيقة حيّة ولو على حساب الطمأنينة الشخصية. إننا أمام نصٍّ يتجاوز حدود السيرة الذاتية ليصبح خطابًا وجوديًا، يبحث عن معنى “الإنسان” وسط غابة من الوحشية. يُدهشك أن ترى هذا المفتش الذي كان يفترض أن يُمسك دفاتر الانضباط فقط، وقد تحوّل إلى مؤرّخٍ شعوريٍّ لعصرٍ انكسر فيه المنطق. لا يسرد الوقائع كصحفي، بل يُعيد بناءها كفيلسوفٍ ميداني، يعاين كيف يتحول الإنسان إلى أداةٍ في يد الجنون الجمعي. تتسرّب من كلماته رائحة التراب المبتلّ بالدم، وصدى صرخاتٍ لم يُكتب لها أن تصل إلى العدالة، وكأن المذكرات جاءت لتعيد للضحايا أسماءهم بعد أن غطّاهم غبار النسيان. في “سنوات الجمر”، تتعانق الصورة بالشهادة، فيتحول المشهد الأمني إلى مرآةٍ للعذاب الإنساني. تامعووست لا يكتب من موقع المنتصر أو المهزوم، بل من موقع الشاهد الذي يجرؤ على النظر في العيون الملطخة بالخوف. لغته تقف عند الحافة بين الواقعية القاسية والرمزية العميقة؛ فهو يعرف أن الحقيقة حين تُروى عارية تفقد جزءًا من معناها، فيكسوها بشيء من الشعر كي لا تموت من القسوة. وكأنّه يقول لنا: “حتى في الجحيم، ثمة جمالٌ في أن تبقى إنسانًا”. المذكرات ليست مجرّد إعادة تركيب لتاريخٍ قريب، بل هي محاولة لفهم المأساة الجزائرية من داخلها، من بين ركام المنازل ومقابر الصمت. حين يتحدث عن الشهداء الذين سقطوا بلا اسم، وعن الأطفال الذين كبروا في الظلام، وعن نساءٍ صرن أرامل الوطن، تشعر أنّ كل جملةٍ تخرج من جرحٍ مفتوح. ولكنه لا يستسلم للمأساة؛ بل يجعلها درسًا في ضرورة الوعي، وفي خطورة أن يُترك الجهل يتحدث باسم الله أو باسم الثورة. اللافت في أسلوب تامعووست أنّه لا يكتب بوصفه ضحية، بل بوصفه شاهدًا على جنونٍ لم يُرد له أن يُكرّر نفسه. يكتب ليمنع النسيان، لأن النسيان – في نظره – خيانة. في زمنٍ امّحت فيه الذاكرة، تصبح كلماته صرخة في وجه من يريد اختصار سنوات الجمر في “إحصائيات”، أو تحويلها إلى مادةٍ للتاريخ البارد. المذكرات تُعيد لتلك السنوات دفئها الإنساني، بأخطائها وخياناتها، بانتصاراتها الصغيرة التي تمثّلت في بقاء الإنسان حيًّا رغم كل شيء. إنّ تامعووست يكتب بضمير الجمع، كأنّ كل الجزائريين يتحدثون من خلاله. “نحن الذين خفنا ولم نهرب، الذين فقدنا ولم نكره، الذين رأينا النار ولم نصبح رمادًا” – هذه العبارة التي تتكرّر في روحه وإن لم تَرِد نصًّا، تلخّص فلسفته في الكتابة: أن تتحول الذاكرة إلى شهادةٍ جماعية لا إلى بكائية فردية. المذكرات في جوهرها فعل مقاومة ضد النسيان، وضد التزوير، وضد روايات المنتصرين التي تُخفي الحقيقة خلف شعارات البطولة. لغته تنتمي إلى المدرسة الواقعية التأملية، لكنها متشبعة ببلاغةٍ داخلية، فيها صدق التجربة لا زينة الكلمات. كل جملةٍ تنزف من الوجع، لكنها لا تتخلى عن العقل. كأنّ الكاتب يقول لنا: “العقل وحده لا يشفى من الذاكرة، لكن الذاكرة بلا عقلٍ تقتل من جديد”. هذه الجدلية بين الوجدان والعقل تجعل من “سنوات الجمر” نصًا مفتوحًا على كل قراءة، أدبية كانت أو نفسية أو اجتماعية. على المستوى الفني، المذكرات تمزج بين السرد الاعترافي والتحليل النفسي والسياسي، فتبدو كوثيقةٍ أدبيةٍ مركّبة تُسائل ضمير الأمة. فالقارئ لا يجد نفسه أمام “كاتب” بل أمام “ضمير” يروي، يعترف، يَدين، ويتطهّر. وكأنّ الكتابة هنا ليست فعلًا جمالياً فحسب، بل طقس خلاصٍ روحي، يسعى من خلاله إسماعين تامعووست إلى التخفف من ثقل الذاكرة. إنه لا يكتب ليمجّد، بل ليطهّر. وحين نقرأ عباراته الأخيرة التي تتحدث عن الأمل، ندرك أن الرجل لم يكتب من قلب الحطام عبثًا. في النهاية، يرفع رأسه كمن خرج من معركةٍ طويلة دون أن يخسر إنسانيته. يقول ضمنيًا: “لقد عشتُ زمن الجنون، لكني لم أفقد إيماني بالإنسان.” وهذه العبارة وحدها كافية لتمنح للمذكرات قيمتها الأدبية والإنسانية الخالدة. من الناحية النقدية، يُمكن القول إن “مذكرات شاهد على سنوات الجمر” تمثّل انتقال الأدب الجزائري من أدب الثورة إلى أدب الذاكرة، من البطولة إلى المحاسبة، من الصمت إلى الاعتراف. إنها حلقة جديدة في سلسلة الوعي الوطني، لأنّها لا تكتفي بوصف الألم، بل تفسّره وتفكّك أسبابه. ومن هنا تأتي أهميتها التاريخية: فهي ليست مجرد توثيقٍ للعشرية السوداء، بل محاولة لتضميدها بالكتابة. لقد أعاد إسماعين تامعووست تعريف “الشهادة” من جديد: ليست من يروي الموت، بل من يمنح للحياة معنى بعد الموت. فالمذكرات ليست عن الماضي فقط، بل عن الحاضر الذي لم يتعلم بعد كيف يحاور آلامه. لذلك فإن أثرها لا ينتهي عند حدود الذاكرة، بل يمتد إلى الحاضر الذي يحتاج إلى التذكّر كي لا يعيد الخطأ. ولعلّ أجمل ما في تجربة تامعووست أنّها تضع الإنسان في مركز الحدث. فهو لا يتحدث عن “الدولة” أو “التنظيمات” بقدر ما يتحدث عن الإنسان العادي: الجندي الذي تاه في أمرٍ لم يفهمه، الطفل الذي رأى الدم أول مرة، الأم التي تنتظر، المعلم الذي يواصل الدرس رغم سماع الرصاص. تلك التفاصيل الصغيرة هي التي جعلت المذكرات نصًا حيًا لا يمكن تجاوزه. إن قراءة “سنوات الجمر” ليست عودة إلى الماضي، بل إلى الذات الجماعية، إلى السؤال الذي لم يجب عنه أحد بعد: كيف ننجو من أنفسنا؟ تامعووست لا يقدم جوابًا جاهزًا، بل يضع المرآة أمام القارئ ويتركه يرى وجهه في رماد الأمس. ومن هنا، تكتسب المذكرات طابعها الفلسفي العميق، فهي لا تكتفي بقول “ما حدث”، بل تسأل “لماذا حدث؟” و“ماذا تبقّى فينا منه؟”. في نهاية المطاف، لا يمكن النظر إلى مذكرات إسماعين تامعووست كعملٍ توثيقيٍّ فقط، بل كحركة وعي. إنّه صوتٌ يذكّر الجزائريين بأن الذاكرة ليست عبئًا، بل ضرورة. وأنّ من لا يتذكّر لا يمكنه أن يبني مستقبلًا نقيًا. ولأنّ الكاتب عاش التجربة، فإن شهادته لا تُقرأ، بل تُعاش. كل سطرٍ فيها هو ومضة من نارٍ لم تخمد بعد، وكل كلمةٍ فيها هي قطرةُ ماءٍ تُطفئ رمادًا. لقد منح إسماعين تامعووست للأدب الجزائري الحديث بعدًا جديدًا، حين جعل من المأساة درسًا في النهوض، ومن الجمر طريقًا إلى النور. فالمذكرات ليست عن الألم فقط، بل عن الانتصار على الألم بالوعي والصدق. إنها دعوة إلى مصالحة الإنسان مع ذاته، إلى الإيمان بأنّ الجزائر التي نجت من الجمر قادرة على أن تكتب فجرها بيد أبنائها. وهكذا، تبقى مذكرات إسماعين تامعووست وثيقةً أدبية وإنسانية تُلخّص قرنًا من الصراع بين الذاكرة والنسيان، بين الظلمة والضياء، بين الموت والحياة… لكنها في النهاية تختار الحياة، لأن صاحبها – رغم كل شيء – آمن أن الوطن، مثل النار، لا يضيء إلا بعد أن يحترق.







