في زمنٍ تهيمن فيه منظومات المعرفة العالمية على الهويات المحلية، تبرز إشكالية التأريخ في ارتباطها العضوي بما يمكن أن نسميه أزمة الهوية الثقافية والسيكولوجية، لا بوصفها خللاً عرضياً في بنيات السرد، بل كجرح بنيوي عميق أصاب الذات المفكرة العربية منذ أن أُقصيت عن مركز إنتاج المعنى، وأُلحقت بوصفها كائناً متلقياً، لا فاعلاً.
_ التأريخ والتاريخ بوصفه فعل هيمنة.
التأريخ ليس مجرد كتابة التأريخ. أو التأريخ ليس سرد زمني للأحداث أو تسجيل تسلسلي للوقائع، بل هو، كما يشير ميشيل فوكو، أداة سلطة وإنتاج للمعرفة – إنه تشكيل للهويات لا يعكس الحقيقة بقدر ما يبتكرها. فالخطابات التاريخية التي نُنتجها أو نستهلكها ليست بريئة، بل محمّلة بإرادات قوى، تحدّد ما يستحق التوثيق وما يُقصى، ما يُعدّ علمياً وما يُهمّش.
من هذا المنظور، تبدو محاولة تأريخ السيكولوجيا العربية فعلاً إشكالياً مزدوج الاضطراب: فمن جهة، يغيب المرجع الداخلي الأصيل الذي يُستمدّ منه التصنيف والمفاهيم، ومن جهة ثانية، يُستبدَل هذا الغياب بنسق سردي مستعار، لا ينتمي إلى البنية الثقافية والاجتماعية العربية. وما التأريخ في هذه الحالة إلا استعارة مشوّهة للتاريخ الغربي، كُتبت بأقلام عربية ولكن بأرواح مفكّكة.
_ الهوية كأزمة مُضمَرة في الخطاب السيكولوجي
تُظهر لنا تجارب المدارس الغربية الكبرى – من السيكولوجيا التجريبية البريطانية، إلى السلوكية الأمريكية، فالجدلية السوفييتية – أنّ كل مدرسة انبثقت من سياق حضاري وثقافي خاص، تمثّل مشكلاته وتعبّر عن أولوياته وتستبطن أنماط العيش والفهم لدى الإنسان الغربي. فليس من المصادفة أن يظهر فرويد في فيينا المثقلة بصراعات القيم والجنس والدين، أو أن ينهض بافلوف في ظل المنظومة الاشتراكية التي تُعلّي من التجريب والتحكم، أو أن يولد بياجيه من رحم تساؤلات العقلانية الأوروبية حول النماء المعرفي للطفل.
في المقابل، لا نجد في السيكولوجيا العربية سوى اجترارٍ أكاديميٍ هشٍّ لهذه النماذج، دون مساءلة مرجعيتها أو صلاحيتها في قراءة بنية النفس العربية التي تشكّلت في ظل تراث لغوي وروحي مختلف، وأنماط قمع واستلاب واستعمار مغايرة.
من جهته يرى المفكر هشام جعيط أن الهوية العربية تعيش حالة من “اللازمنية”، إذ تعجز عن التمركز حول ذاتها التاريخية، فإما أن تُحاصر بنموذج سلفي يحنّط الماضي، أو تُستلب في نموذج حداثي معولم، يستورد التجربة دون أن يُمارس نقدها. وفي الحالتين، تصبح الهوية وعاءً فارغاً يُملأ بما يُملى عليه.
_ بين بورنج ومببللر: المرايا المكسورة
حين يُعاد تكرار مقولات بورنج ومببللر ودوورث في السياقات العربية، دون تفكيك أو تعديل، فإننا لا نكون أمام فعل علمي، بل أمام مرآة مشروخة تعكس صورة الآخر، وتُقصي صورة الذات. فحتى حين يُكتب “تاريخ للسيكولوجيا العربية”، فإن محتواه لا يتجاوز في كثير من الأحيان ترجمةً لأطروحات غربية، أو تلخيصاً لمعارك لم نخضها، وتيّارات لم تنشأ في فضائنا الاجتماعي والأنثروبولوجي.
وهو ما يشير إليه إدوارد سعيد حين تحدّث عن “التمثيل الاستشراقي” الذي يُنتج الآخر عبر عيون المركز. إننا، في هذه الحالة، نعيد تمثيل أنفسنا استشراقياً، ولكن بلسان داخلي. وهنا تكمن قمة المفارقة: إننا نُخضع الذات العربية لمنطق تحليلٍ لم يُبنَ لأجلها، بل أُنشئ لقراءة أزمات الإنسان الغربي، وقُطر على مشكلاته، من فقدان المعنى إلى الاغتراب الوجودي.
_ نحو تأصيل معرفي لاجتماع النفس والهوية.
الحاجة اليوم ليست إلى “نقل” سيكولوجيا الغرب، بل إلى بناء مشروع تأصيلي ينطلق من أسئلة الذات العربية، لا من أجوبة الآخر. مشروع يراعي:
1. خصوصية التاريخ العربي بوصفه مساراً متعدّد الطيّات، من الفتوحات إلى الاستعمار إلى التفكك المعاصر.
2. اللغة كحاضنة للمعنى النفسي، إذ أنّ المفردات التي نصوغ بها وعينا تُشكّل بنيته، ومن ثم لا يمكن لسيكولوجيا عربية أن تُبنى بمفاهيم لا تنتمي إلى الحقول الدلالية الثقافية.
3. الواقع الاجتماعي العربي الذي لا يزال يخضع لمنطق البنية القَبَلية، والسلطة الأبوية، والمخيال الديني والسياسي المأزوم، وكلها عناصر تؤثّر على تشكيل الهوية والنفس.
إن السيكولوجيا، كما يراها كارل غوستاف يونغ، ليست فقط علماً للظواهر الذهنية، بل خريطة للأنماط الرمزية التي تشكّل الشعوب. وبهذا، فإن سيكولوجيا عربية أصيلة يجب أن تُنقّب في الرموز الجمعية، في المرويات الشعبية، في الطقوس والعقائد، لا في المعادلات السلوكية المجردة.
_ الختام: الهويّة كفعل مستقبلي.
إننا لا نحتاج فقط إلى تأريخ مختلف، بل إلى رؤية جديدة للهويّة، لا بوصفها نوستالجيا ماضوية أو استيراداً معولماً، بل كمشروع انخراطي في الذات وفي العالم، مشروعٍ يتجاوز ثنائية التبعيّة والانغلاق.
وكما يقول عبد الله العروي: “لا يُمكن أن نتحرّر من التأخر إلا إذا أدركنا تأخرنا.”
وكما يمكن أن نضيف: ولا يمكن أن نؤسّس هويتنا النفسية إلا إذا انتقلنا من التلقي إلى التشكيل، من الانبهار إلى النقد، ومن الاقتباس إلى الإنشاء.