هذا الجحيمُ الذي تعيشه أمتنا العربية، المُمزّقة، مسلوبة الإرادة، المُنغمسة في صراعات عبثية منهِكة، يجعلنا نطرح السؤال المِفصلي الآتي: ماذا يجبُ أن يُتعامَل معه كأولوية نضالية: إصلاح الأسس التي قامت عليها الدولة الوطنية العربية الحديثة، أم مواجهة الأمراض التي أصابت سلطة تلك الدولة؟
الجوابُ على هذا السؤال سيقرّر تركيبة وأساليب عمل وأهداف النضال المدني والجماهيري العربي الآن وفي المستقبل القريب.
ومن أجل أنْ نعرف مكمَن المُشكلة التي نطرحها دعنا نبدأ أولًا بتبيان ظروف أسس قيام الدولة العربية القُطرية بعد نهاية الخلافة العثمانية على يد الغرب أو بعد تقسيم المشرق العربي من قبل الاستعماريْن الإنجليزي والفرنسي، كما خططها مشروع (سايس- بيكو) الاستعماري الشهير. كانت تلك اللحظة التاريخية بداية أزمة الدولة في مكوناتها التي تتناقض مع مفاهيم (الدولة / الأمة الحديثة) ومع غياب أسس عصرية لشرعية سلطات تلك الدولة التي حلت محل الأتراك العثمانيين أو محل قوى الاستعمار عندما تراجع ورحل من أرض بلاد العرب.
نحن هنا أمام مشهدين تاريخيين: الأول مشهد (الدولة/ الأمة) في أوروبا الذي وصل عمره أربعة قرون تقريبًا، والثاني مشهد الدولة (بدون اتحاد الأمة بعد) في بلاد العرب الذي وصل عمرها حاليًا بضعة عقود من السنين فقط. ظروف ولادة الدولة العربية الحديثة نقلت في الحال إليها قائمة من مواريث سياسية وعرقية وجبهوية واجتماعية وثقافية ودينية، كانت حصيلة عدة قرون من النظام العربي الإسلامي المُهيمن على الشرق أوسطية برمتها. على رأس قائمة تلك المواريث الترسخ التاريخي للطائفية المذهبية والحساسيات العرقية، والكثير من السلوكيات والعادات الاجتماعية البدائية، ومن مفاهيم مغلوطة كطاعة الحاكم العمياء والخوف المريض من الفتنة وإشكاليات مفاهيم الدولة الدينية ومصطلحي الخلافة والإمامة. كانت قائمة من المواريث التي أقحمت الدين في كل جانب من جوانب قيام الدولة، وذلك بالرغم من أن علماء إسلاميين كبارًا من أمثال محمد عبده والشيخ محمد مهدي شمس الدين وغيرهما، قد أكدوا -قبل قرن من قيام الدولة العربية- أنَّ الخلافة هي عمل سياسي والخليفة حاكم مدني، وأن الدولة غير مُقدسة، وأنها في الدرجة الأولى كيان سياسي وقانوني، وأنه في أقصى الأحوال تمثل الدولة العربية، في إطار الإسلام، دولة الاجتهاد البشري في سياق الالتزام بتنفيذ مبادئ العدل والإحسان والنهي عن المنكر وكرامة الإنسان وحريته.
إنَّ دولة تنشأ وهي مثقلة بكل تلك المواريث لا تستطيع أن تفرز سلطة لتحكمها وتديرها وتنميها، تتّسم بالمدنية والحداثة، وبالتالي بالديموقراطية الشرعية. وهذا ما حصل للغالبية الساحقة من دول العرب القُطرية، مهما كانت طبيعتها، قبلية أو دينية أو عسكرية أو مدنية ليبرالية. جميعهم وقعوا تحت أمراض تلك المواريث التي كوّنت الدولة العربية القطرية في بداية عهدها.
وهكذا وجدت الأمة العربية، وقبل أن تتَّحد وتبني نفسها في الواقع، مثقلة بدولة فيها كثير من التشوهات وبسُلطة تحكمها فيها كثير من العيوب. وفي الحال نواجه هذا السؤال: من أجل الخروج من هذه الحلقة المفرغة، هل الأولوية في أجندة النضال الشعبي والمدني العربي للتركيز على إصلاح الدولة أم التركيز على مواجهة سلطاتها وبناء سلطات أفضل تقوم هي الأخرى بإصلاح الدولة؟
هذا سؤالٌ بالغُ الأهمية لأن الإجابة عليه ستقرر الجوانب النضالية السياسية في واقع المجتمعات العربية، وستحدّد نوع النضال المطلوب في المستقبل. لقد ركزت مؤتمرات ومناقشات جرت سابقًا على الجوانب النظرية والفكرية، بينما المطلوب هو النزول إلى الواقع ومواجهته.
نقلا عن الراية القطرية