إعادة ضبط العلاقة الخليجية الإيرانية.. السيادة أولا

محمد فيصل الدوسري

كشفت الحرب التي امتدت لـ12 يومًا بين إسرائيل وإيران، عن تحولات عميقة لم تقتصر على المعادلات العسكرية فحسب، بل طالت أيضًا منظومة العلاقات الإقليمية وأعادت تسليط الضوء على ملف بالغ الحساسية، خصوصًا العلاقة بين دول الخليج وإيران.

 

ولعلّ الموقف الذي عبّر عنه معالي الدكتور أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارت (عبر حسابه على منصة «إكس») يلخص بدقة جوهر المرحلة الجديدة. فبينما وقفت دول الخليج صفًّا واحدًا ضد الحرب، وسعت لخفض التصعيد عبر قنواتها الدبلوماسية، فوجئت باعتداء إيراني على السيادة القطرية، في تجاوز لا يمكن اعتباره خطأً عسكريًا عابرًا، بل اختراقًا سياسيًا خطيرًا لكل ما بُني دبلوماسيًا من أرصدة الثقة.

منطق «الاحتواء المتبادل» الذي حكم العلاقة مع إيران لعقود، يبدو أنه وصل إلى حدوده الطبيعية. لطالما تمسّكت دول الخليج بسياسة التهدئة وبناء الجسور، انطلاقًا من قناعة استراتيجية أن استقرار إيران الجارة لا ينفصل عن أمن المنطقة. ولكن الاستهداف الصاروخي الذي طال قطر لم يكن موجَّهًا ضد قاعدة عسكرية أمريكية فحسب، بل ضد منطق الوساطة الخليجية ذاته، وضد فكرة الجوار الحصيف التي لطالما تبنّتها العواصم الخليجية.

وبات واضحًا أن العلاقة لم تعد تقبل بمنطق المواربة. فأي «إعادة ضبط» لهذه العلاقة يجب أن تنطلق من قاعدة واحدة، أساسها احترام السيادة الخليجية دون استثناء.

لقد راهنت دول الخليج خلال السنوات الماضية على سياسة عقلانية تجاه إيران، تجسدت في الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، وإعادة الإمارات سفيرها إلى طهران، وأجواء التقارب الخليجي مع إيران بشكل إيجابي، في مقاربة خليجية متزنة أرادت دفع المنطقة للتهدئة وإبقاء الأبواب مواربة مع الجانب الإيراني، إلا أن استهداف قاعدة العديد في ذلك المساء الغريب في تاريخ الخليج قد يعيد تعريف المسار الخليجي-الإيراني بشروط مختلفة.

ما فعله الحرس الثوري من استهداف لدولة خليجية بشكل مباشر يُعد حدثًا غير مسبوق، ولم يكن رسالة عسكرية، بل إعلان نوايا. ومهما حاولت تبريره الدبلوماسية الإيرانية ضمن معادلة الردع أو الاشتباك مع واشنطن وتل أبيب، فإن ما جرى وضع الخليج أمام لحظة مراجعة صريحة. فالدول التي ساندت إيران بشكل صادق منذ بداية الهجمات الإسرائيلية، لا يمكن أن تكون مستهدفة على نحو انتقامي.

الأمر يتجاوز الحادث بحد ذاته. فإيران أعادت تدوير سرديتها القديمة عن «إخراج القواعد الأجنبية»، ولكن هذه المرة بلغة النار لا الخطاب، ما يشكل خطرًا مزدوجًا: أولًا على تماسك المنظومة الخليجية، وثانيًا على وعي الشعوب العربية التي قد تنجرف، بحكم العاطفة أو سوء الفهم، خلف دعاية شعبوية تتقاطع مع سرديات جماعات الإسلام السياسي.

الخليج اليوم أمام تحدٍّ تاريخي، إما أن يُعاد رسم العلاقة مع إيران على أسس متينة من الندية والاحترام المتبادل، أو أن تستمر الدائرة المفرغة من التفاهمات الرمادية والخيبات المتكررة. والمطلوب ليس قطع الجسور، بل بناء جسور جديدة على قواعد صلبة؛ جسور تبدأ من السيادة، لا من التنازلات.

لطالما كانت السياسة الخليجية متزنة مع إيران، ولا يمكن أن يُقابل الاعتدال المتزن بالاعتداء، وعلى طهران أن تعترف بشكل علني بالخطأ، وتتعهد بشكل جاد بعدم تكرار الانتهاكات، وبإعادة بناء الثقة التي كُسرت.

قد يكون من المبكر الجزم بمآلات العلاقة الخليجية الإيرانية في المستقبل، ولكن من المؤكد أنها لم تكن المرة الأولى لإيران في تلاعبها بصبر العواصم الخليجية مجددًا. ولنعد إلى الذاكرة: أليست إيران من تحتل الجزر الإماراتية الثلاث؟ ألم تدعم لأربعة عقود جماعات إرهابية استهدفت الكويت والإمارات والسعودية والبحرين، وعلى رأسها الحوثيون وحزب الله وغيرهم؟

وكما عبّرت معالي لانا نسيبة، مساعدة وزير الخارجية للشؤون السياسية، في مقالها المنشور في «فايننشال تايمز»، فإن «المسار الذي نختاره الآن سيشكّل مستقبل الشرق الأوسط لعقود». وهذا يضع العرب والولايات المتحدة وإسرائيل وإيران أمام مسؤولية كبرى لتفادي أخطاء الماضي. وجدّدت الإمارات التزامها ببناء الجسور، حيث أكدت معالي السفيرة في مقالها أن «لا يمكن لأي استراتيجية جدار حديدي أن تحقق نصرًا لأي دولة أو شعب»، في موقف يعكس روح الرؤية الخليجية لما بعد الصراع. نحتاج إلى سلام يستند إلى العقلانية، لا إلى المغامرة.

ولذا، فإن دول الخليج لم تعد تبحث فقط عن أمنٍ مؤقت، بل عن منظومة استقرار دائم تُبنى على الاعتراف المتبادل، والتزام القواعد، لا على وهم «التهدئة الموجّهة» التي تستخدمها طهران كغطاء لاستراتيجياتها التوسعية.

السيادة ليست موضوعًا للنقاش، بل هي الأساس الذي يُبنى عليه أي تفاهمات مستقبلية. ونحن أمام فرصة لوضع العلاقة مع إيران في إطارها الحقيقي: إما شراكة تليق بجوارٍ مسؤول، أو وقفة ضرورية لإعادة التقييم.

العين الاماراتية