إعادة هندسة حلف شمال الأطلسي

د. منصور جاسم الشامسي

حلف شمال الأطلسي (الناتو)، أكبر منظمة عسكرية في العالم، هل يبقى، كما هو؟ هناك من يتحدث عن احتمال تفككه وانهياره ! أم أن الحلف بصدد تغييرات داخلية بنيوية هيكلية تجعله يتشكل بطريقة أخرى أو جديدة؟
قانون التَغيّير في العلاقات الدولية سارٍ. عُمْر حلف شمال الأطلسي منذ نشأته في 1949 حوالي 76 عاماً وباقي 24 عاماً ليُكمل قرناً كاملاً في 2049، فهل يُكمل 100 عام؟
بدأ القادة الأمريكيون الجُدد: الرئيس دونالد ترامب، ونائبه دي جي فانس، ووزير الدفاع بيت هيغسيث، ما يُشبه «الثورة» ضد الحِلف حين طالبوا الاتحاد الأوروبي بزيادة إنفاقه الدفاعي والأمني، وتحمل الاتحاد لمسؤولياته الدفاعية والأمنية، بنفسه، وأن يتخلى عن عنصر «التبعية» بأن لا يعتمد على الولايات المتحدة في الشأن الدفاعي والأمني. وقد أُصيب الشركاء الأوروبيون بالذعر لهذا الموقف الأمريكي المستجد.

هناك دائماً نسيج من «اللوم»، و«النقد» و«الإحباط»، المتبادل، يحدث بين الشركاء عند الخِلاف، وهذا ما يدور حالياً بين الشركاء في حلف الناتو، وهناك «خوف» في الجانب الأوروبي، على الأقل عند بعض الأعضاء، خاصة في شرق أوروبا، من انهيار الحِلف أو تفككه، برحيل الولايات المتحدة عنه.

مبدئياً، الولايات المتحدة ملتزمة بحلف الناتو. لكن متغيرات السياسات الداخلية للدول تؤثر في سياستها الخارجية. لهذا، فإن الولايات المتحدة تواجه ضغوطاً داخلية ومتطلباتها المالية، وفي سياستها الخارجية بدأت تركز على «محور آسيا»، وله متطلباته العسكرية، الذي يُجبرها على مراجعة دورها في الحلف، حتى لا يتحول إلى «لزوم ما لا يلزم» وعبء يستنزفها.
أصل نشأة حلف الناتو سياسي- أمني – دفاعي – أيديولوجي لمواجهة الاتحاد السوفييتي طبقاً لعقيدة آمن بها الحلف في الحرب الباردة بأن الاتحاد السوفييتي يُشكل عنصر تهديد للأمن الأوروبي. ولهذا، أنشأ الاتحاد السوفييتي، بالمقابل، حلف وارسو في 1955 بقيادته والذي جمع معه الدول الأوروبية الشيوعية الاشتراكية، وقد إنهار حلف وارسو مع انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991. غير أن أوروبا تسلحت بعقيدة أمنية جديدة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، ترى أن روسيا قد حلت محل الاتحاد السوفييتي بصفتها عنصراً تهديداً للأمن الأوروبي.
الناتو كان قد رفض طلباً روسياً للانضمام للحلف قدمه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 2000 – 2001. وقبل ذلك في 1994 أبدى الرئيس الروسي بوريس يلتسين رغبته للانضمام للحلف، لكن الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون تحفظ على ذلك. لو انضمت روسيا لحلف الناتو لتقوضت عقيدته الأمنية من أساسها وفقد مبررات وجوده. لهذا، حين وضعت الإدارة الأمريكية الجديدة استراتيجية التفاهم والتحالف مع روسيا بدل المواجهة، شعر الأوروبيين بخطر زوال الحلف بزوال عقيدتهم الأمنية المَبنية على مواجهة روسيا، ليبرز السؤال: ما هي مبررات وجود الحلف عند إلغاء «عقيدة مواجهة روسيا»؟ ولماذا كل هذا التسلح؟ وضد من؟
لهذا، ثمة مشكلة يواجهها حلف الناتو أخطر من احتمال خروج الولايات المتحدة منه، تتمثل في زيادة الإنفاق الدفاعي والأمني والعسكري الأوروبي الذي يؤدي إلى زيادة «تسلح أوروبا» وخاصة دولها الكبرى، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. وفي ظل بقاء تصور «التهديد الروسي للأمن الأوروبي»، لدى الأوروبيين، فإن أوروبا ستصبح ميدان سباق تسلح وصراع أوروبي – روسي. فرنسا، حالياً، لديها ترسانتها من السلاح النووي ولديها عقيدتها النووية المستقلة منذ عام 1963 في عهد الرئيس الفرنسي ديجول الذي وضع مبدأ اعتماد فرنسا على ذاتها وقدراتها العسكرية الخاصة. وفي مارس/آذار 2025 شرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطاب للشعب الفرنسي استعداد فرنسا لتمديد «مظلتها النووية» لكل الدول الأوروبية وسط ترحيب بعضها وتخوف البعض.
في ألمانيا، تتصاعد التوجهات الاستقلالية، يقودها المرشح الأوفر حظاً لمنصب المستشار فريدرش ميرتس، الذي حذر من انهيار حلف الناتو، ويرى بأن على «أوروبا أن تعزز دفاعاتها بشكل عاجل وربما تجد بديلاً لحلف الناتو لتحقق الاستقلال عن الولايات المتحدة».
في بريطانيا، أبدت زعيمة حزب المحافظين، كيمي بادينوك، تأييدها لدعوة ترامب بأن تعتمد أوروبا على نفسها، وتعهدت بدعم رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، لزيادة الإنفاق الدفاعي، غير أنها ظلت تساند الرئيس الأوكراني في حربه ضد روسيا، ومن جانبه، فإن ستارمر ظل مُدافعاً، عن الولايات المتحدة بصفتها دولة حيوية وصادقة ولا غنى عنها لبريطانيا، إلا أن ترامب ظل ينتقد ستارمر والسياسة البريطانية بشدة تجاه أوكرانيا وروسيا. وفي أواخر مارس/آذار 2025 رحب ستارمر بالجهود الأمريكية لإنهاء النزاع الروسي – الأوكراني إلا أنه دعا إلى «احتواء روسيا» بعد انتهاء النزاع، ما يعني استمرار النظر لروسيا بصفتها عنصر تهديد.
ليست خيانة ولا تحطيم، لكنها الواقعية السياسية والبرغماتية، الولايات المتحدة غدت غير مُتكيفة مع «الناتو»، في شكله «الليبرالي»، ولكلفته المادية، ولأولويات سياسة «أمريكا القومية القوية أولاً»، المُستجدة، ومُتطلباتها، لذا فالولايات المتحدة تعمل على تغييرات جذرية في الحلف بالضغط على شركائها الأوروبيين لِيَتَبَنّوا «اقتصاد حَربٍ» بأن يتحملوا قدراً أكبر من أعباء الدفاع، مادياً ولوجستياً، وبالتالي، بدأت «إعادة هندسة لحلف الناتو» مؤدية لاستقلال أوروبا دفاعياً أمنياً عسكرياً، مع بقاء الولايات المتحدة، بالحلف، بتكاليف مادية، وأعباء، أقل، في المرحلة الحالية، واحتمال فك ارتباطها بالحلف، في المستقبل المنظور.

الخليج الاماراتية