ما قاله ترامب ونتنياهو أمس ليس تصريحًا سياسيًا عابرًا، بل إعلان وقح عن عودة الاستعمار إلى لغته الأصلية: لغة الأوامر، والإنذارات، والتهديد، والتعامل مع فلسطين كملف أمني، ومع الفلسطيني ككائن يجب “إصلاحه” أو كسره. لم يتحدثا عن احتلال، ولا عن مجازر، ولا عن حصار، بل عن نزع سلاح الضحية، وتأهيل الجلاد، وتسويق الخراب تحت اسم السلام.
عندما يحدد ترامب مهلة لنزع سلاح المقاومة، فهو لا يخاطب فصيلًا بعينه، بل يعلن أن الفلسطيني لا يملك حق الدفاع عن نفسه، وأن الدم الفلسطيني مباح طالما أن القاتل إسرائيلي. لم نسمع يومًا تهديدًا بنزع سلاح جيش الاحتلال، ولا إنذارًا للمستوطنين، ولا مهلة لوقف القتل، بل دائمًا يُطلب من الضحية أن تكون عارية أمام آلة الحرب، ثم يُلام إن صرخ أو قاوم.
الوقاحة تبلغ ذروتها حين يقول ترامب إن “إسرائيل أوفت بالتزاماتها”. أي التزامات؟ التزام القصف؟ التزام التجويع؟ التزام دفن الأطفال تحت الركام؟ منذ متى صار تدمير المدن، ومحو الأحياء، وتحويل المستشفيات إلى ساحات إعدام، وفَرْض الحصار الجماعي، وفصل الناس عن الماء والدواء، التزامًا سياسيًا؟ هذا ليس كذبًا سياسيًا فحسب، بل تزوير فجّ للواقع وتبرئة صريحة لمجرم حرب.
ثم يأتي نتنياهو ليحدّثنا عن “إصلاح السلطة الفلسطينية”، لا بإنهاء الاحتلال، ولا بوقف الاستيطان، بل بتغيير المناهج الدراسية. يريدون فلسطينيًا بلا ذاكرة، بلا تاريخ، بلا رواية، بلا كلمة “احتلال”. يريدون طفلًا فلسطينيًا يقرأ عن السلام فيما الدبابة أمام مدرسته، ويُطالبونه بأخلاق الضحية فيما القاتل محصَّن بالقانون والسلاح والدعم الأميركي. ليست المشكلة في كتاب مدرسي، المشكلة في جندي مدجج يقف على حاجز، وفي مستوطن يسرق الأرض تحت حماية الدولة.
وعندما يعترف ترامب بأنه لم يتفق “بنسبة مئة بالمئة” مع نتنياهو بشأن عنف المستوطنين، فهو لا يخفف الجريمة بل يشرعنها. كأن إحراق القرى، وقتل المدنيين، واقتحام البيوت، وتدنيس المقدسات، مجرد وجهة نظر قابلة للنقاش. عنف المستوطنين ليس خللًا، بل سياسة، وليس استثناءً، بل جوهر المشروع الاستيطاني، ومن لا يسمي الجريمة جريمة فهو شريك فيها، مهما حاول التظاهر بالاختلاف الجزئي.
أما الحديث عن إعمار غزة، فهو ذروة النفاق السياسي. أي إعمار هذا الذي يُعرض بيد من دمّر؟ وأي إعادة بناء تُشترط بنزع السلاح والاستسلام؟ الإعمار الذي لا يسبقه رفع الحصار ووقف العدوان ومحاسبة القتلة ليس إعمارًا، بل رشوة سياسية، وصفقة على الدم، ومحاولة لشراء الصمت فوق المقابر الجماعية.
وفي الخلفية، يلوّح ترامب بدعم ضربة لإيران، ويمنح نتنياهو صك بطولة ويطالب له بالعفو، وكأن مجرم الحرب يصبح بطلًا إذا امتلك دعم واشنطن، وكأن القانون الدولي مجرد ورقة تُرمى حين لا تخدم القوي. هكذا تُدار السياسة الأميركية: من يقتل أكثر يُكافأ، ومن يُقاوم يُهدَّد، ومن يطالب بحقه يُتهم بالإرهاب.
الخلاصة الواضحة التي يريد ترامب ونتنياهو فرضها هي أن فلسطين ليست قضية تحرر، بل مشكلة أمنية، وأن الفلسطيني ليس شعبًا صاحب حق، بل ملفًا يجب إخضاعه، وأن المقاومة جريمة، فيما الاحتلال “حق دفاع عن النفس”. لكن ما يرفضون فهمه، أو يعجزون عن كسره، هو أن فلسطين ليست بندًا في مؤتمر، ولا ورقة في مفاوضات، ولا مزرعة تُدار من البيت الأبيض.
فلسطين شعب، والحق لا يسقط بالتهديد، ولا يُمحى بالحصار، ولا يُلغى بالإنذارات الزمنية. من يراهن على إخضاع الفلسطينيين بالقوة لم يتعلم شيئًا من التاريخ، ولم يفهم أن هذه الأرض لا تُسلَّم، وأن الشعوب قد تُجرَح، قد تُحاصَر، قد تُخذَل، لكنها لا تهزم






