في ضوء سقوط النظام العلوي في سوريا، وهو نظام ارتبط عضويا بـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في عهدي الأسد الأب والأسد الإبن، لم يعد أمام “الجمهورية الإسلاميّة” في إيران سوى اتباع سياسة الحدّ من الأضرار. سيترتب عليها ذلك من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مشروعها التوسعي في المنطقة. هذا إذا كان في الإمكان إنقاذ هذا المشروع ذا الطابع التدميري لكلّ ما هو عربي في المنطقة.
لا مفرّ لإيران من اتباع سياسة الحدّ من الأضرار التي لحقت بها، خصوصا مع فرار بشّار الأسد من سوريا. جعلت هذه السياسة الإيرانيّة حكومة محمّد شياع السوداني في وضع لا يحسد عليه، خصوصا أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران مصرّة على وضع العراق في الواجهة واحكام سيطرتها عليه. لم يعد سرّا أن إيران كانت تدفع في إتجاه تدخل عراقي عسكري في سوريا، علما أن ذلك لم يكن يقدّم ولا يؤخر. لم يكن التدخل العسكري العراقي ليمنع خروج النظام السوري من المأزق العميق الذي عانى منه والذي توج بخروج بشّار الأسد من السلطة بعدما امضى أربعة وعشرين عاما رئيسا. بين تلك السنوات، كانت سنوات ثورة شعبيّة استمرت ثلاثة عشر عاما تولت خلالها إيران وروسيا مهمّة بقاء بشّار الأسد جاثما على صدور السوريين.
مرّة أخرى سيطرح نفسه السؤال المتعلّق بموقع العراق في المنطقة وما إذا كان في استطاعته الخروج من الهيمنة الإيرانيّة التي بدأت في العام 2003؟ وقتذاك، سلمت إدارة جورج بوش الإبن العراق على صحن فضّة إلى إيران.
لم يعد من شكوك في أنّ إيران تنكفئ في اتجاه العراق الذي تسعى إلى الإحتفاظ به مرتكزة على نقطتين أساسيتين. النقطة الأولى هي “الحشد الشعبي” الذي ليس سوى مجموعات ميليشيات مذهبيّة مرتبطة بـ”الحرس الثوري” بطريقة أو بأخرى. النقطة الأخرى حكومة محمّد شياع السوداني التي ليست، منذ تشكلت، سوى امتداد للنفوذ الإيراني في العراق وتعبير عنه.
تلقى المشروع التوسعي الإيراني في الأشهر القليلة الماضية سلسلة من الضربات القويّة. قبل كلّ شيء، لم تعد غزّة موجودة. كان لإيران نفوذ كبير لدى “حماس” التي أقامت “إمارة إسلاميّة” في القطاع منذ منتصف العام 2007. بعد “طوفان الأقصى”، أزالت إسرائيل قطاع غزّة، مع ما يعنيه ذلك من سقوط شبه نهائي لـ”حماس”. لم يعد من ثقل يذكر لهذا التنظيم في غياب غزّة ذات المصير المجهول.
كانت كلّ حسابات إيران المرتبطة بحرب غزّة خاطئة. لم تستوعب ابعاد “طوفان الأقصى”، وهو الهجوم الذي شنته “حماس” بقيادة يحيى السنوار على مستوطنات غلاف غزّة. لم تستوعب أنّ “طوفان الأقصى” سمح بحروب شنتها إسرائيل قتل فيها قياديو “حزب الله” وقضي فيها على جزء من الحزب الذي يعتبر الجوهرة الكبرى في تاج المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة.
جاءت ضربة لبنان مباشرة بعد ضربة غزّة. لن يكون “حزب الله”، الذي ورط نفسه ومعه البلد في حرب مع إسرائيل، الحزب نفسه في ظلّ اتفاق وقف النار الأخير بين لبنان والدولة العبريّة. لن يعود لبنان ملكا لإيران كما كانت عليه الحال قبل إغتيال حسن نصرالله في أيلول – سبتمبر الماضي. بكلام أوضح، لم يعد قرار السلم والحرب في لبنان في تصرّف إيران.
جاءت الضربة الأكبر للمشروع الإيراني في سوريا حيث انتهى النظام الأقلّوي، الذي راهنت عليه إيران طويلا. عندما شكّك وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بمصير بشّار الأسد الذي فرّ من دمشق، كان ذلك دليل على إعتراف إيراني بسقوط نظام كان نقطة الوصل بينها وبين لبنان منذ سنوات طويلة، منذ وقف حافظ الأسد في العام 1980 إلى جانب “الجمهوريّة الإسلاميّة” في حرب السنوات الثماني مع العراق.
تعدّ إيران نفسها، منذ فترة لا بأس بها، تحسبا للحظة خسارة “حماس” ولبنان وسوريا. لم يعد لديها سوى العراق، فيما مسألة تخلّص اليمن من الحوثيين مسألة وقت ليس إلّا. سيكون عليها الإرتداد في اتجاه العراق الذي بات خط الدفاع الأوّل عن نظام “الوليّ الفقيه” الذي وجد في تصدير أزماته إلى خارج حدوده الحلّ الوحيد للعجز عن تحويل إيران إلى دولة طبيعية في المنطقة. رفع النظام الذي اسّسه آية الله الخميني في كلّ وقت شعار “تصدير الثورة”. لم يكن الشعار في واقع الحال سوى تصدير للبؤس والميليشيات المذهبيّة.
شهد العراق، قبل تشكيل الحكومة الحالية محاولة لإيجاد توازن بين الجار الإيراني من جهة والإنتماء إلى المنطقة العربية من جهة أخرى. يمتلك العراق عمقا إستراتيجيا خليجيا وعمقا مشرقيا في الوقت ذاته. كان في استطاعة العراق لعب دور مهمّ على صعيد التوازن الإقليمي في مرحلة معيّنة. حالت إيران، التي جاءت بمحمد شياع السوداني إلى موقع رئيس الوزراء، دون ذلك.
سيزداد تعلّق إيران بالعراق، مع فقد “الجمهوريّة الإسلاميّة” أوراقها الإقليمية الواحدة تلو الأخرى وانكشاف ضعفها الداخلي. ليس إغتيال إسرائيل لإسماعيل هنيّة رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” في قلب طهران سوى تعبير عن هذا الضعف الإيراني الذي سيسمح بتغيير النظام القائم عاجلا أم آجلا…
ليس معروفا ما الذي ستفعله إيران من أجل تأكيد أنّ مشروعها التوسّعي لا يزال حيا يرزق. كذلك، ليس معروفا هل العراق مقبل على أحداث داخلية يؤكّد من خلالها العراقيون هل هم على استعداد لبقاء بلدهم مجرّد ورقة إيرانيّة… أم يرفضون ذلك؟
أسئلة كثيرة تفرض نفسها في الأسابيع والشهور القليلة المقبلة. بين هذه الأسئلة موقع العراق في المنطقة والدور الذي سيلعبه فيها وهل يبقى “ساحة” إيرانيّة أم لا.
تأتي كلّ هذه الأحداث في وقت لم يعد سرّا أنّ هناك إعادة رسم لخريطة المنطقة. ينقص المشهد الشرق أوسطي غياب يحىى السنوار الذي لن يشاهد بأمّ عينيه ما الذي فعله عندما اتخذ قراره بشنّ “طوفان الأقصى”.