يمكن توظيف إنهاء الحرب في غزّة مدخلاً لتحقيق المصالحة أو العكس ربّما، إذ يجب أن تُسرّع الجهود المبذولة من أجل تحقيق مصالحة جزئية عبر تشكيل لجنة إسناد مجتمعي لإدارة غزّة من الجهود الفلسطينية المشتركة لإنهاء الحرب. رغم أن ما يتردّد من أخبار عن نتيجة الحوار في القاهرة غير مشجّعة حتى اللحظة، رغم ما سُرّب من معلومات. وكان صاحب هذه السطور قد كتب قبل أكثر من شهر أن إنجاز أيّ اتفاق فلسطيني مرحلي أفضل من انتظار تحقيق المعجزة بإنهاء الانقسام بالكامل، ليس لأن الانقسام لن ينتهي، بل لأن انتظار تحقيقه كاملاً يعني استمرار المعاناة الناتجة من وجوده بالكامل أيضاً. يمكن تحقيق بعض الإنجاز وتخفيف وقع آثاره لو قليلاً حتى يشعُر الناس بالقليل من الأمل. ما أقوله إن إنهاء الحرب يجب أن يتلوه أو يترافق معه (وربّما يسبقه) تجسيد بعض الخطوات الواجبة من أجل رأب الصدع الداخلي. كلّ شيء في الوطن متصدّع والحالة الوطنية متآكلة، وحالنا لا يسرّ صديقاً ولا يغيض عدواً، وعذابات شعبنا وآلامه لم تعد لغات الأرض كلّها تقدر على وصفها، لذا ليس أمامنا إلا البحث عن مخرج من الداخل، أن نتحدّث معاً بصوت مرتفع، ونبحث عن طرق نحلّ فيها بعض الأزمات التي تواجهنا، ساعيين أن تقود هذه الطرق الفرعية إلى الطريق الرئيس الذي يخرجنا من عتمة الانقسام. هذا الاتفاق المرحلي أفضل من انتظار الحلّ الأمثل والنموذجي، ومن شأنه أن يوحّد الجهود لإنهاء الحرب، ويكون نتيجةً طبيعيةً لإدراكنا حجم التحدّيات التي يتعرّض لها شعبنا، ونعمل بشكل مشترك في تجاوز محنة الحرب وتداعيات آثارها.
كلّنا يعرف الصحيح، وكلّنا يعرف ما هو الحلّ الوحيد للانقسام، ولكن يبدو أن ما جرى لم يغيّر شيئاً، أو لم يغيّر كثيراً في مواقفنا ووجهات نظرنا. يبدو السياق الفلسطيني عاجزاً عن رؤية حقيقة ما يجري أو فهم هذه الحقيقة. نحن نتقاتل في الهواء وعلى ركام غزّة التي لم تعد موجودةً، ونختلف على إدارة مكان لا يحتاج لإدارة، بل إلى موقف جماعي منّا. لو أننا نتحدّث بصوت واحد فقط. لو أننا نصرخ في وجه العالم القاسي بصوت واحد فقط. لو أننا فقط ننعي شهداءنا ببيان واحد، ولو أننا نسير نحو نهاياتنا المؤلمة موحّدين. حتى هذه لا نقدر عليها.
التوافق الوطني الداخلي يجب أن يكون جزءاً أيضاً من الجهود الجماعية لإنهاء الحرب، فالمسؤولية عن إنهاء الحرب يجب النظر إليها بوصفها مسؤولية جماعية، وليست مسؤولية تنظيم بعينه، فمن شأن هذا التوافق أولاً أن يوحّد الجهد الفلسطيني ويقوم بتوزيع الأدوار بخصوص تحقيق الهدنة ووقف حرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، سعياً وراء الحفاظ على وجود شعبنا والعمل المشترك من أجل إخراجه من النفق المظلم، الذي يعيش فيه. المؤكّد أن الجهود المبذولة في إطار التواصل بين حركتي فتح وحماس يجب ألا تعترضها مواقف حزبية أو حركية، وألا ترتهن إلا للمصلحة الوطنية العُليا. عبر هذا التوافق فقط، يمكن لنا أن نجد مخرجاً يصلح لأن يكون مدخلاً شاملاً لتحقيق الوحدة ولتوحيد طاقات شعبنا وللتفكير الجمعي فيما سنفعل. أظن أن حوارات تشكيل لجنة إسناد لإدارة غزة مؤقتاً، مهمتها توزيع المساعدات والتخطيط لإعادة الإعمار وترميم القطاع الصحّي، صارت بحدّ ذاتها صعبةً صعوبةَ إنهاء الحرب وصعوبة إنجاز المصالحة وصعوبة حلّ الصراع في الشرق الأوسط. هذا أمر غير معقول، فنحن نحول كلّ شيء مادّةً للخلاف. مرّة أخرى الظن أن ثمّة نضج لم ينضج، وثمّة وعي لم يرتقِ إلى الوعي.
أسوأ ما في الحالة الوطنية الفلسطينية عجزنا عن التفكير شعباً واحداً. لم يوجد شعبٌ لديه مشكلة بحجم مشكلتنا، ويتعرّض لحرب إبادة مثل تلك التي يتعرّض لها شعبنا، وخبر من مآسي الحروب والتشريد والمذابح، وتعرض لمحاولة إفناء كالتي تعرّضنا لها خلال النكبة، ونتعرض لها الآن. أقول إنه لا يوجد شعب يتعرّض لذلك كلّه ويظل منقسماً. إن صراعات الشعوب كانت دائماً جزءاً من بناء الهُويَّات الجمعية، وإن خبرات الدول لم تخل يوماً من حروب داخلية قادت في نهاية الأمر إلى اتفاق وطني شامل وعريض أساساً للدولة الوطنية كما نعرفها. هذا كلام يصحّ من الولايات المتحدة وحربها الأهلية إلى حروب غاليبرادي في إيطاليا وبسمارك في ألمانيا، بالطبع مع اختلافات طفيفة تتعلّق بالسياقات المحلّية لتجارب الشعوب. المقصد أن الحروب والصراعات الداخلية كانت دائماً جزءاً من بحث الشعوب عن المشترك فيما بين مكوّناتها المختلفة. ورغم ما قد يثيره هذا من تحفظات إلا أنه ليس سليماً تماماً في الحالة الفلسطينية، إذ إن طبيعة ما نتعرّض له من حرب إبادة منذ فجر النكبة، والسعي لإزالتنا، والحلول مكاننا، ذلك كلّه كان يجب أن يجعلنا أكثر وعياً بأن الخلاف الداخلي والصراع الأهلى ليس إلا دفعاً للأمام نحو أهداف العدو. وعليه فإننا بذلك لا نفعل شيئاً أكثر من المساهمة في المؤامرة التي تستهدف شعبنا، وتستهدف وجوده في البلاد وخارجها حتى.
علينا أن نأخذ التصريحات الصادرة عن ترامب على محمل الجدّية، حين توعّد غزّة إذا لم يُطلَق سراح الأسرى الإسرائيليين منها. ترامب، الذي حقّق ما وعد به من إنجاز الهدنة في لبنان لناخبيه وأصهاره اللبنانيين، لم يتحدّث صراحة عن إنجاز هدنة في غزّة. قد يكون راغباً في إنجاز هذه الهدنة ووقف الحرب بالكامل، لكنّ وقف الحرب بالنسبة إليه (كما هو واضح) هو تحقيق إسرائيل مطالبها كلّها، وهو بذلك سيضع في يد إسرائيل صفارة الحكم لإنهاء المبارة. ورغم أن التفاصيل قد تجلب كثيراً من التغيّر في ما يجري، حتى العشرين من الشهر المقبل (يناير/كانون الثاني)، فإن المؤكّد أننا لسنا أمام مرحلة إيجابية، وعلينا أن نتوقّع أن تواصل إسرائيل حربها وإخلاءها غزّة من سكّانها. هل هناك من يريد أن يخبرنا أن مشروع التهجير الكلّي لسكّان غزّة قد انتهى؟
لن أقرّ بأنه انتهى، إلا حين أرجع إلى بيتي في المخيّم (تخيّلوا لا أقول بيتي في يافا) وأعيد بناء البيت مع إخوتي وندفن والدي وبقية شهداء العائلة. عندها يمكن لنا فقط أن نقول إن مشروع التهجير توقّف. الآن، كلّ كائن حي يتحرّك في شمال غزّة تقوم إسرائيل بقتله. تهدم أيّ بيت تحسّ أن فيه حركة وفيه ناس. فكرة إفراغ الشمال تسير على قدم وساق. تذكّروا أن إفراغ البلاد وتهجير القرى لم يحدث دفعة واحدة عام 1948، بل عبر عمليات مختلف قامت بها العصابات، وبعد ذلك استكملت الدولة الوليدة مهمّة طرد السكّان، وهدم قراهم وبلداتهم.
ثمّة غيومٌ تلوح في السماء، لا أحد يعرف إذا ما كانت ستمطر أم لا. نحن نتقدّم إلى الخلف. دائماً ما أتذكّر هذه العبارة، التي كانت مكتوبة على جدار مدرسة في المخيّم، كلّما تذكّرت حالنا. نحن لا نتقدّم عملياً، كلّ طرف منا يفترض أنه يتقدّم لأنه يدفع مصالحه الحزبية إلى الأمام. إننا نواصل تقدّمنا للخلف وبإصرار. ثمّة مجموعة قصصية لفوزي العمري نُشِرت في القاهرة عام 1966 بعنوان “غزّة من الخلف”.