إيران تضرب “العديد”: نارٌ بلا دماء ورسائل مشفّرة للبيت الأبيض، الخليج، والداخل الإيراني

بن معمر الحاج عيسى

في لحظة فارقة من التصعيد المتبادل بين طهران وواشنطن، أقدمت إيران على تنفيذ ضربة صاروخية باتجاه قاعدة “العديد” الأمريكية في قطر، وهي واحدة من أهم القواعد العسكرية الأمريكية خارج أراضي الولايات المتحدة، بل وتُعتبر بمثابة القلب العملياتي للوجود العسكري الأمريكي في الخليج والمنطقة الأوسع. غير أن الضربة، رغم رمزيتها وشحنة التحدي التي حملتها، لم تخلف ضحايا يُذكر، ولم تُحدث دمارًا يُعتد به، ما فتح الباب واسعًا أمام التأويلات والتحليلات بشأن الرسائل الكامنة وراء هذه الضربة وتوقيتها، ومدى جديتها، وحدود تصعيدها. أم أنها بالكاد تدخل في مجال الخداع البصري …. لدوافع سياسية

كماتشير معلومات مسربة من دوائر دبلوماسية وإعلامية متعددة إلى أن السلطات الإيرانية أبلغت الحكومة القطرية مسبقًا بنيتها توجيه ضربة للقاعدة، وأن الدوحة – على الأرجح – أوصلت هذه المعلومات لواشنطن أو أعطت أوامر بإخلاء جزئي أو مؤقت للموقع، لتقليل الخسائر البشرية والمادية، أو لتفادي أي رد فعل أمريكي كاسح. هذا التفصيل – بحد ذاته – يحمل دلالات بالغة الأهمية: إيران لا تريد حربًا شاملة، لكنها تريد أن تُظهر قدرتها على الوصول، وتوصيل الرسائل بالصوت والصورة والنار، ولو كانت النار محسوبة الإحراق.

الضربة بهذا الشكل لم تكن تهدف إلى الإيذاء، بقدر ما كانت تهدف إلى التأثير. تأثير سياسي، معنوي، نفسي، وإعلامي. وهذا ما يُفسر اختيار “العديد” تحديدًا، كهدف رمزي عسكري ودعائي. فهذه القاعدة ليست مجرد موقع لتمركز الجنود الأمريكيين في قطر، بل هي مقر قيادة العمليات الجوية المركزية، ومنها تُدار العمليات في العراق وسوريا وأفغانستان والخليج، ويُنسّق فيها التعاون الاستخباراتي والعسكري مع الحلفاء الإقليميين. إنها أشبه بدماغ عسكري للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. واستهدافها، حتى لو كان محدودًا، بمثابة صفعة ناعمة لواشنطن ورسالة قوية لمن يفهم لغة النار الهادئة.

أولًا: الداخل الإيراني… امتصاص الغضب بصاروخ محسوب

من الواضح أن أحد أبرز أهداف هذه الضربة كان موجهًا للداخل الإيراني. بعد سلسلة من الضربات الأمريكية، العلنية والسرية، التي طالت منشآت ومصالح إيرانية، من بينها مواقع نووية ومنشآت عسكرية، كان النظام الإيراني بحاجة ماسة إلى فعل “يُحفظ ماء الوجه”، ويعيد بناء السردية السيادية، ويقنع الشعب الإيراني بأن النظام لا يزال يمتلك زمام المبادرة. الضربة، إذًا، ليست انتقامًا كاملًا بقدر ما هي “عرض عضلات محدود” يتيح للإعلام الرسمي الإيراني أن يروج لفكرة الرد، ويؤكد أن اليد الإيرانية قادرة على الضرب متى أرادت وأينما شاءت.

توقيت الضربة، وشكلها، ومكانها، وحتى التنسيق الضمني فيها، كلها تكشف أن الرسالة موجهة بالدرجة الأولى للشارع الإيراني الذي أصبح يشعر بالخذلان والغضب نتيجة تكرار الانتهاكات الأمريكية، دون رد فعل واضح. النظام الإيراني لا يستطيع دخول حرب مباشرة مع الولايات المتحدة، لكن في الوقت نفسه لا يستطيع البقاء مكتوف الأيدي. والنتيجة: عملية محسوبة، بدون خسائر فعلية، لكن ذات بعد رمزي كبير.

ثانيًا: الخليج في مرمى الرسائل… الضغط من الداخل

في بعدها الخليجي، تأتي الضربة كمحاولة إيرانية لبث الذعر في عواصم الخليج التي تستضيف القواعد الأمريكية. الرسالة الإيرانية واضحة: “أنتم لستم خارج دائرة الاستهداف. مجرد قبولكم بوجود القوات الأمريكية فوق أراضيكم يجعلكم في دائرة الخطر”. بهذا المعنى، تستخدم طهران ورقة “التهديد غير المباشر” لتحفيز هذه الدول على مراجعة موقفها، أو على الأقل، للضغط على واشنطن من أجل خفض التصعيد. إيران تدرك أن لا مصلحة فعلية لدول الخليج في الانجرار إلى حرب شاملة تُهدد أمنها ومصالحها واقتصادها، ولذلك تراهن على أن “رعب الضربة” قد يُترجم إلى ضغوط دبلوماسية حقيقية على البيت الأبيض.

هذه الاستراتيجية الإيرانية ليست جديدة. فقد سبق وأن استخدمت طهران تكتيك “الرسائل الصاروخية الرمزية” في العراق ضد قواعد أمريكية، ونجحت حينها في إحداث موجة من الحذر والتوتر، دون التورط في حرب مباشرة. واليوم تُعيد نفس السيناريو، لكن في سياق أكثر حساسية: الخليج هذه المرة هو مسرح الضربات، والعديد ليست قاعدة صغيرة بل أهم قاعدة أمريكية في المنطقة، ويعني استهدافها اختراقًا مباشرًا لهيبة الردع الأمريكية في المنطقة.

ثالثًا: الرسالة الأهم… ترامب والرأي العام الأمريكي

في قلب كل ذلك، تبرز الرسالة الأهم: توريط ترامب في مأزق سياسي داخلي. فالرئيس الأمريكي – بحسب معارضيه – قد تجاوز صلاحياته الدستورية بشن هجمات على أهداف إيرانية دون الرجوع إلى الكونغرس، في مخالفة صريحة لبنود الدستور التي تشترط موافقة تشريعية قبل خوض أي حرب. الضربة الإيرانية على قاعدة “العديد”، وإن لم تسفر عن خسائر، تسعى لتذكير الرأي العام الأمريكي بأن سياسات ترامب الاستباقية قد تُعرّض الجنود الأمريكيين للخطر في قواعدهم الآمنة، وأن الحسابات غير الدقيقة قد تُورط البلاد في صراع إقليمي مُكلف، لا يرغب فيه أغلب الأمريكيين، خاصة مع اقتراب موسم الانتخابات الرئاسية.

هنا يظهر ذكاء طهران الاستراتيجي: فهي لا تسعى إلى قتل جنود أمريكيين، بل إلى خلق إحراج سياسي، وتشجيع الأصوات المناهضة للحرب داخل أمريكا على رفع الصوت، والضغط على الإدارة من الداخل، تمامًا كما فعلت سابقًا بعد اغتيال قاسم سليماني، حين ردّت بضربات لم تُسفر عن قتلى لكنها هزت ثقة المواطن الأمريكي بقدرة بلاده على تأمين جنودها.

رابعًا: أين يقف الخليج الآن؟

بصورة أو بأخرى، باتت دول الخليج أمام سؤال وجودي: هل يمكن أن تبقى في موقع الحليف الأمريكي الصامت في ظل تحول قواعدها إلى أهداف محتملة؟ وهل تستمر في الرهان على القوة الأمريكية لحمايتها بينما هي غير قادرة على منع صواريخ تُطلق من آلاف الكيلومترات لتصيب هدفها؟ هذه الأسئلة تضغط على النخب السياسية والأمنية في الرياض وأبو ظبي والمنامة والدوحة. وهنا مكمن رهان طهران: أن يقود هذا القلق إلى تقارب خليجي-إيراني، أو على الأقل إلى ضغوط حقيقية تمارسها الدول الخليجية على واشنطن لخفض التصعيد وفتح قنوات التفاوض.

الخلاصة: نارٌ تكتيكية تُشعل رمادًا استراتيجيًا

الضربة الإيرانية على “العديد” ليست إعلان حرب، لكنها بالتأكيد ليست مجرد رد فعل عاطفي. إنها حلقة جديدة في لعبة التوازن بين الاستعراض والردع، بين التصعيد المنضبط والحرب المؤجلة، بين كسب النقاط إعلاميًا وتثبيت الوقائع استراتيجيًا. هي ضربة في جسد “الهيبة الأمريكية”، وإن كانت بلا دماء، فهي مشحونة برسائل موجهة لكل من يملك عقلًا ليفهم، وأعصابًا ليقرأ ما بين سطور الصواريخ.

قد تُسارع واشنطن إلى الرد، أو قد تُفضل التريث، لكن الأكيد أن الخليج بعد هذه الضربة لن يكون كما قبلها، وأن صمت قواعده الأمريكية لم يعد ضمانة أمن، بل قد يتحول إلى صدى لطبول حرب مقبلة، تحاول كل الأطراف تفاديها، لكنها تقترب بخطى متسارعة نحو لحظة الاشتعال.