عندما وقفت أم أيمن أمام جثث ولديها، لم يكن في وجهها دموع أو صرخات، بل جملة واحدة فقط: “فشرتوا!”. في تلك اللحظة، ردّد الآلاف خلفها: “إي والله، فشروا يا أمي!”. فشروا أن يسلبونا سوريا الحرة، أن يحوّلوا الموت إلى قاعدة، والحياة إلى استثناء.
لكن في تلك اللحظة، كان الأمر أكثر من مجرد صرخة أُطلقت في وجه القتل والدمار. كان الواقع كله حاضرًا في كلماتها، وكان موقفها يعكس سوريا كما هي اليوم: وطن يقف على حافة الفجائع، صامتًا، مستوعبًا ما حدث ولكن عاجزًا عن تصديقه، مترنحًا بين الهول والخوف من القادم.
لم تكن وقفة أم أيمن مجرد شجاعة، بل كانت إشارة إلى لحظة فارقة في تاريخ هذا الوطن. كان ذهولًا، كان رفضًا من نوع آخر، رفضًا لاستيعاب الفجيعة. كان موقفها بمثابة مرآة لسوريا كلها، سوريًا يقف متكسرًا وسط الخراب، يرفض أن يصدق أن الوطن تحول إلى هذه الصورة.
لكن لنعرف كيف وصلنا إلى هذا المشهد، لنعرف ما يجعل “فشرتوا” صرخة تتردد في أرجاء الوطن، علينا أن نعود قليلاً إلى الوراء، إلى الأشهر الثلاثة الماضية فقط.
بعد سقوط الأسد، تحوّل الخطاب العام إلى دائرة مغلقة من الكراهية المتزايدة، حتى أصبحنا نعيش في مناخ ملوث بالشكوك والتخوين.
في لحظة واحدة، تحولنا جميعًا إلى “فلول” في نظر البعض، كما كنا في الماضي “إرهابيين” في نظر آخرين، دون أن يكون هناك مجال للتمحيص أو التفكير، فكل شيء أصبح مبررًا تحت ستار الانتقام أو “التصحيح”.
من الانتماء إلى الاتهام
بمجرد أن سقط النظام، أصبح العلويون “مشتبهًا بهم”، مجرد امتداد لجماعة، لا يُنظر إليهم كأفراد بل ككتلة متهمة.
لم يعد يُسمح لهم بأن يكونوا “أبرياء”، بل كان عليهم أن يثبتوا ذلك في كل لحظة، وحتى لو أثبتوا براءتهم، كان عليهم دفع ثمن مُسبق لقبولهم بين “الآخرين”.
لقد تحوّل العلوي من مواطن إلى مشتبه به، لمجرد اسم أو مكان ولادة، لا أكثر.
تصعيد الكراهية من العزل إلى الاستباحة
الكراهية لم تقتصر على العزل فقط، بل تصاعدت لتصل إلى استباحة الوجود ذاته.
في البداية كان العزل: “موظفين أشباح”، “بني قاق”، “لا تثقوا بهم”.
ثم أصبح التهديد: “احذروهم، إنهم خطر”، “كلهم غدارون”.
وفي النهاية، وصلنا إلى مرحلة الاستباحة، حيث أصبح العلوي مجرد هوية متهمة، لا حق لها في الدفاع عن نفسها.
لقد أصبح العلويون أقل من إنسان، مجرد هدف سهل الاستهداف في ظل هذا الخطاب المتصاعد.
القتل كتحصيل حاصل
في هذا المناخ المشبع بالكراهية، أصبح القتل مجرد نتيجة متوقعة.
أصبح القاتل يشعر بأنه لا يرتكب جريمة، بل يمارس تطهيرًا، و”استردادًا للحق”.
وبينما كان من الممكن أن يكون الفارق بين من حمل السلاح ومن لم يفعل، بين من دعم النظام ومن عارضه، الجميع أصبحوا هدفًا مجردًا، فقط بسبب انتمائهم الطائفي.
من المسؤول؟
المسؤول هنا ليس فقط من حمل السلاح ضد العلويين، بل أيضًا أولئك الذين سوّغوا هذا الخطاب التحريضي، أولئك الذين تعاملوا مع العلويين ككتلة متجانسة، بلا اعتبار للتنوع داخلها، بلا تفاوت بين فرد وآخر، بلا تميز بين ضحية ومجرم.
ما العمل؟
إن استمر هذا التحريض على هذا النحو، فإن الساحل لن يكون إلا البداية.
ما بدأ بالكلمات تحوّل إلى دماء، وما قد يتبع ذلك قد يكون مصيرًا مستمرًا من التصفيات المتبادلة.
نحن أمام لحظة فارقة: إما أن نوقف هذه الدوامة الآن، أو نتركها تبتلع الجميع، ليتحول كل شيء إلى فوضى دائمة.
صرخة أم أيمن وحدتنا للحظة، ولكن هل نملك الشجاعة لتحويل تلك الوحدة إلى موقف دائم؟ أم سنكتفي بالترديد “فشرتوا” ثم نعود إلى الصمت؟