ابن الفارض بين السيمياء والهيرمينوطيقا: قراءة في البنية الجمالية للنص الصوفي:

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

1 ـ مدخل عام.
يُعَدّ ابن الفارض (1181–1235م) واحداً من أبرز أعلام الشعر الصوفي في التراث العربي الإسلامي، وقد ارتبط اسمه بمقام العشق الإلهي والوجد الروحي الذي صاغه بلغة شعرية مشبعة بالرموز والاستعارات. قصائده – مثل التائية الكبرى والخمرية – ليست مجرد بوح شخصي، بل هي فضاء جمالي تتقاطع فيه التجربة الروحية مع البنية الشعرية، حيث يتحول النص إلى نصّ إشاري (سيميائي) مفتوح على تعدد القراءات، ويقتضي مقاربة هيرمينوطيقية تأويلية تفكك طبقاته الرمزية وتعيد وصلها بسياق التجربة الروحية والفكرية.
النصوص التي بين أيدينا تمثّل خلاصة فكر ابن الفارض الشعري: الحنين الروحي، العشق الذي يتجاوز الجسد، والخمرة الرمزية التي لا يُخلق لها كرم.
2 ـ السيمياء الشعرية: العلامة والرمز.
القصيدة تعتمد بنية سيميائية متكاملة، حيث تتحول الكلمات إلى إشارات تتجاوز دلالتها المعجمية:
١ _ السهر والنجوم: في قوله: «سهري بتشنيع الخيال المرجف وأسأل نجوم الليل…»، تتحول النجوم من مجرد كائنات كونية إلى علامات دالة على الشهادة والرقابة الروحية، فهي بمثابة الحضور الكوني الذي يراقب تجربة العشق.
٢ _ الخلوت مع الحبيب: «ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا سر أرق من النسيم…». هنا العلامة “الخلوت” ليست لقاءً بشرياً، بل إشارة سيميائية إلى الانسحاب من العالم الحسي والانفتاح على الأفق الروحي حيث الحبيب هو الله.
٣_الخمر والشراب: «شربنا على ذكر الحبيب مدامة سكرنا بها من قبل أن يُخلق الكرم». الخمر هنا علامة صوفية شهيرة تُحيل إلى المعرفة اللدنية والنشوة الروحية، وهي خمر “أزلية” لا علاقة لها بالخمر الأرضي، بل تنتمي إلى أفق سرمدي يتجاوز التاريخ.

إذن، اللغة الشعرية عند ابن الفارض ليست مباشرة، بل مشبعة بالعلامات التي تستدعي فك شفراتها عبر قراءة سيميائية.
3 ـ الهيرمينوطيقا: التأويل والبحث عن المعنى.
القراءة الهيرمينوطيقية تكشف أن النص عند ابن الفارض ليس “مغلقًا”، بل يقوم على طبقات متراكبة من المعنى:
1. المستوى الظاهر (الإيروسي): حيث يبدو النص كغزل عاطفي وحوار بين عاشق ومعشوق.
2. المستوى الباطن (اللاهوتي/الصوفي): حيث يتحول العشق إلى رمز للاتحاد بالله.
3. المستوى الكوني: حيث تدخل الطبيعة (الليل، النجوم، النسيم) كوسائط رمزية بين الذات والآخر المطلق.
توظيف الخمرة مثلاً لا يمكن أن يُفهم دون استحضار تقاليد التأويل الصوفي التي تقرأها كرمز للمعرفة الإلهية، في حين يظل المعنى “المجازي” أداة لتجاوز حد اللغة نحو تجربة لا تُقال بالكامل.
4 ـ البناء الجمالي:
البنية الجمالية لقصيدة ابن الفارض تتجلى في:
١_ الموسيقى الداخلية: من خلال الإيقاع الشعري المنتظم الذي يعكس الانسجام بين التجربة الروحية وتدفق اللغة.
٢ التكرار والإيقاع الدلالي: مثل تكرار ضمير المخاطب (أنتم فروضي ونفلي) الذي يخلق حالة من التوكيد العاطفي والروحي.
٣_ المفارقة الشعرية: حيث تتجاور صور السهر والأنين مع صور النشوة والخمر، مما يعكس جدلية العذاب والوصال في التجربة الصوفية.
الجمع بين الحسي والميتافيزيقي: حضور الألفاظ الحسية (الخمر، النسيم، السهر) يتحول إلى لغة ميتافيزيقية تتجاوز المباشر نحو الكوني والسرمدي.
5 ـ ابن الفارض والشعر العربي:
من منظور تاريخ الشعر العربي، يمثّل ابن الفارض مرحلة تمازجت فيها بلاغة الغزل العربي القديم مع الرؤية الصوفية الإسلامية. فهو امتداد لخطاب الحب العذري من جهة، لكنه يرفعه إلى مستوى الرمز الكوني، حيث يتحول الحبيب إلى مطلق، واللقاء إلى اتحاد وجودي. هذا ما جعل نصوصه مرجعاً مهماً في الدراسات الحديثة، سواء في النقد السيميائي الذي يرى في العلامة الشعرية أفقاً مفتوحاً، أو في التأويل الهيرمينوطيقي الذي يكشف طبقات المعنى في النص الصوفي.
6 ـ خاتمة:
قصيدة ابن الفارض ليست مجرد شعر وجداني، بل هي نصّ سيميائي ـ هيرمينوطيقي بامتياز:
سيميائي لأنها تنسج شبكة من الرموز والعلامات (النجوم، النسيم، الخمر…) التي تتجاوز معانيها المباشرة.
هيرمينوطيقي لأنها تستدعي قارئًا مؤوِّلًا يتجاوز الظاهر إلى باطن التجربة الروحية.
جمالية لأنها تمزج بين الموسيقى الشعرية والعمق الروحي لتنتج خطابًا شعريًا خالداً.
بهذا المعنى، يظل ابن الفارض علامة فارقة في الشعر العربي، حيث استطاع أن يجعل من اللغة أفقًا للوجود ومن الشعر معراجًا نحو المطلق.