يتفاخر الرئيس الامريكي ترامب في العديد من تصريحاته وتغريداته على موقع “تروث سوشال”، بتدخلاته الفعالة التي ساهمت في اخماد ثمانية حروب في العالم؛ خلال فترة وجيزة لم تتجاوز عام واحد على دخوله البيت الابيض في كانون ثاني/يناير. هذه الحروب او النزاعات التي يُكثر ترامب من تسليط الضوء عليها؛ يقصد فيها غالباً، العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة؛ التوترات القائمة بين مصر واثيوبيا؛ النزاع الحدودي بين كمبوديا وتايلند؛ الحرب بين الهند وباكستان؛ الحرب الروسية- الاوكرانية، الصراع الحدودي بين الكونغو الديموقراطية ورواندا، الحرب بين اسرائيل وإيران، والحرب بين اذربيجان وارمينيا. ويؤكد ترامب في تصريحاته على أن تدخله كان حاسمًا في خفض حدة هذه الصراعات، مما يعكس رؤيته لدوره كوسيط دولي يسعى لتحقيق الاستقرار والسلام العالمي.
تشير المعطيات الميدانية، أن الواقع يحمل صورة أكثر تعقيداً مما يُروَّج له الرئيس ترامب في بعض الأحيان. إذ إن العديد من “الإنجازات” التي يشير اليها لا تعدو كونها نتائج لتوترات دبلوماسية لم تتطور إلى مستوى الصراع المسلح، بينما لا تزال مناطق عديدة تُعد بؤراً نشطة للنزاعات. وفي الوقت ذاته، تشهد مناطق أخرى تهدئة مؤقتة أو هدن هشة وتبقى مُعرضة للانهيار في أي لحظة، على الرغم من التراجع النسبي في حدة المواجهات العسكرية فيها.
عند إجراء مراجعة تحليلية للقائمة التي يقدّمها ترامب بوصفها من أبرز إنجازاته الدبلوماسية السريعة، تبرز إلى السطح جملة من الحقائق اللافتة التي تستدعي التقييم النقدي والفحص الموضوعي:
إعلان ترامب ان “الحرب على قطاع غزة قد “توقفت” كان مبالغاً فيه وغير دقيق، ما يجري على الارض ليس أكثر من هدنة هشة مرشحة للانهيار في اية لحظة. في الحقيقة لم تتوقف الحرب منذ إعلان وقف إطلاق النار يوم 10 اكتوبر الماضي، بل ما زالت مستمرة بعد مرو اكثر من شهرين على الاعلان، وان انخفضت وتيرة القذائف والقنابل على المدنيين الفلسطينيين، لكنها تأخذ اشكالاً اخرى، منها، منع وإعاقة الامدادات الغذائية والدوائية والاغاثية للمدنيين، بالتوازي مع استمرار القصف المتقطع ونسف المباني والاغتيالات، حيث تم تسجيل قرابة 400 اختراق خلال شهرين من اعلان الهدنة نتج عنها؛ ليس اقل من 400 شهيد وقرابة 1000 جريح. وما زال أكثر من مليون ونصف نازح في العراء دون مأوى. وحتى هذه اللحظة لم تنتهي المرحلة الاولى من خطة ترامب التي أعلن عنها يوم 10 اكتوبر؛ على الرغم من الزخم السياسي الدافع نحو بدء المرحلة الثانية من أصل ثلاثة مراحل نصت عليها خطة ترامب.
في ملف النزاع الاثيوبي-المصري بسبب سدة النهضة، لم تكن هناك حرباً قائمة بين الطرفين، وانما توتر سياسي بسبب تعدي اديس ابابا على حقوق مصر التاريخية في نهر النيل؛ وانشائها سد النهضة الذي يحجب تدفقات المياه نحو السودان ومصر- دول المصب، الامر الذي يهدد الامن القومي المصري. في هذا السياق، تفاخر ترامب في منشور مطول على تروث سوشال بتاريخ 15 يونيو 2025، انه انهى حرب قائمة بين الطرفين، قال فيه “… هناك حالة أخرى هي مصر وإثيوبيا، وصراعهما حول سد ضخم يؤثر على نهر النيل الرائع. هناك سلام، على الأقل في الوقت الحالي، بفضل تدخلي، وسيظل الوضع على ما هو عليه!”.
في سياق متصل، نسب ترامب لنفسه الفضل في إنهاء الحرب التي نشبت بين كمبوديا وتايلند، في منشور على موقع تروث سوشال في 28 يوليو/تموز، نشر ترامب انه “وبعد تدخل الرئيس ترامب، توصل البلدان إلى وقف إطلاق النار والسلام”. ومع ذلك، انهار اتفاق وقف إطلاق النار الذي احتفل ترامب بتوقيعه بمساعدة كل من الصين وماليزيا على هامش اجتماع قمة جنوب شرق اسيا (اسيان) يوم 26 اكتوبر. واستأنف البلدان تبادل إطلاق نار عنيف على طرفي الحدود البالغة قرابة 800 كم. وسط استمرار إدعاء الطرفين على احقية امتلاك معابد دينية تقع على طرفي الحدود، وهناك حركة نزوح كبيرة للمواطنين في مناطق القتال، بالإضافة الى عدد من القتلى والجرحى.
في مساعيه للتوسط بين الكونجو ورواندا، وتوقيع اتفاقية وقف إطلاق النار التي وصفها ترامب بــ “السلام التاريخي” يوم 4 ديسمبر؛ لانهاء جولات من الحرب المستمرة منذ قرابة ثلاثون عاماً بين البلدين والتي تعود جذورها الى حرب الابادة الجماعية التي وقعت في رواندا عام1994، بحضور رئيسي البلدين في البيت الابيض. صرح ترامب في احدى مقابلاته بتاريخ 18 اغسطس، قائلاً، “إذا ذهبت إلى أفريقيا، الكونغو ورواندا، فستجدهم يتقاتلون منذ 31 عامًا. وأنا قمت بتسوية الأمر، كل شيء تم تسويته… لم يعد أحد يُقتل”. ومع ذلك، تشير الوقائع على الارض الى تجدد النزاع مرة اخرى بعد استيلاء حركة “M23” المتمردة والمدعومة من رواندا- بحسب إدعاء حكومة الكونجو، على مدينتي غوما وبوكافو شرق الكونجو قرب الحدود مع رواندا. في الوقت نفسه؛ يتبادل الطرفان اتهامات بدعم المسلحين المناوئين على طرفي الحدود.
في ملف آخر متعلق بالمواجهات الحدودية بين القوات الهندية والباكستانية التي استمرت قرابة ثلاث ايام، وهي مواجهات حدودية تقليدية تاريخية تتجدد في كل عام واحياناً في فترات اقل من ذلك؛ هذه الخلافات قائمة منذ عقود بين البلدين النوويين حول احقية السيطرة على اقليم كشمير، المنقسم (الشمالي والجنوبي)، يتخللها في الغالب عمليات إطلاق نار بين الجانبين او عمليات تسلل او تفجيرات ينفذها “ارهابيون” عابرون للحدود. في هذا السياق، اشارت المصادر الرسمية ان خفض التصعيد الاخير بين البلدين واعادة الامور الى الوضع السابق، كان نتيجة اتصال اجراه مدير العمليات العسكرية الباكستاني بنظيره الهندي يوم 10 ايار/مايو، حيث اتفق الطرفان على وقف الغارات الجوية وتبادل القصف المدفعي. ولم تذكر المصادر أي دور لواشنطن في احتواء الموقف، وهو ما اكدته الحكومة الهندية؛ على لسان وزير خارجيتها ميسري: “إن المحادثات بشأن وقف الأعمال العسكرية جرت مباشرة بين الهند وباكستان عبر القنوات القائمة بين الجيشين”، بحسب الــ BBC. ومع ذلك؛ سرعان ما تجددت المناوشات الحدودية بين قوات البلدين من جديد ولكن بمستوى محدود وتحت السيطرة.
هذا الوضع المتوتر، لا يختلف كثيراً عن احداث الحرب الايرانية-الاسرائيلية التي استمرت لمدة 12 يوماً، حين أعلن ترامب من جانب واحد عن وقف إطلاق النار بين الطرفين يوم 24 يونيو/حزيران؛ وسط غياب وثائق الاتفاقية او بنودها وبدون توقيع من الجانبين. ونشر ترامب على موقعه “تروث سوشال” بتاريخ 24 يونيو، يقول “كان من دواعي سروري أن أقوم بتدمير جميع المنشآت والقدرات النووية، ومن ثم إنهاء الحرب!”. وعلى الرغم من وقف تبادل القصف بين الطرفين، الا ان وقف إطلاق النار لا يبدو أكثر من هدنة هشة قابلة للانفجار في اية لحظة، وهو ما تؤكده التصريحات والتحضيرات العسكرية من الطرفين لاحتمال كبير لانفجار جولة جديدة من الصراع. بالمثل، أعلن ترامب نجاحه في وقف العمليات العسكرية بين اذربيجان وارمينيا بتوقيع اتفاق سلام تاريخي يوم 8 اغسطس/آب في البيت الابيض، لانهاء صراع من اطول الصراعات في العالم حول اقليم ناكورنو كارباخ/ جنوب القوقاز- بدأ مع انهيار الاتحاد السوفييتي العام 1991؛ ويدعي الطرفان الاحقية في السيطرة على الاقليم. وعلى الرغم من توقيع الاتفاق على وقف الاعمال القتالية الا ان ارمينيا ترفض الاعتراف بالسيادة الاذربيجانية على الاقليم الذي تمت السيطرة عليه بالقوة المسلحة من قبل اذربيجان، الى حين صدور نتائج الاستفتاء المزمع إجراؤه عام 2027 حول القضية، وبقيت الامور مُعلقة ومرشحة للانفجار في اية لحظة.
في القضية الاكثر تعقيداً؛ والتي تهدد باندلاع حرب عالمية ثالثة، الحرب الروسية-الاوكرانية، والتي وعد ترامب خلال حملته الرئاسية بإنهائها في غضون 24 ساعة، ما تزال الحرب مستعرة على طول حدود الجبهة البالغة قرابة 1000 كم، وما زالت خطة ترامب ذات الــ 28 بنداً لانهاء هذه الحرب متعثرة؛ بفعل مواقف الدول الاوروبية الرافضة للاستجابة لخطة ترامب، وسط اصرار من بوتين على تحقيق مطالب موسكو التي تسببت في اندلاع شرارة الحرب.
على النقيض من هذه الجهود السياسية والدبلوماسية للرئيس ترامب، التي لا فائدة منها، والهادفة لنشر السلام؛ ووقف قتل المدنيين الابرياء كما يردد دائماً. إلا ان رجل إطفاء الحرائق عبر العالم والساعي لتحقيق الامن والسلام، أعلن فجأة حرباً من نوع آخر- حرباً على تجارة المخدرات، وأطلق العنان لتهديداته المقرونة بالأفعال نحو فنزويلا، وأرسل حاملات الطائرات والسفن العسكرية والقاذفات والطائرات الشبحية F35، في حملة عسكرية؛ تهدف للقضاء على عصابات وتجار المخدرات الذي يشكلون خطراً على المجتمع الامريكي. لكن سرعان ما تحولت الحملة من قصف لقوارب تهريب المخدرات -المزعومة، الى إعلان حظر للطيران المدني فوق اجواء فنزويلا، الى جانب عمليات إنزال جوي نفذها الجيش الامريكي بهدف الاستيلاء على ناقلة نفط فنزويلية وتحويلها لإحدى الموانئ الامريكية، وهو ما وصفه الرئيس الفنزويلي “بعمليات قرصنة دولية”. لم يتوقف ترامب عند مستوى الهجمات على القوارب وسفن شحن مصادر الطاقة؛ بل رفع من وتيرة التهديدات بشن عمليات برية لإسقاط النظام الحاكم في كاراكاس، وتوعد رئيسها بإنهاء حكمه قريباً؛ “أيام مادورو باتت معدودة“. في نفس الوقت، صعد سيد البيت الابيض من لهجته تجاه الرئيس الكولومبي غوستاف بيترو، وتوعده بأن “يكون التالي” / بعد الرئيس مادورو، في حملته لمكافحة تهريب المخدرات، ووصفته واشنطن بأنه “تاجر مخدرات غير شرعي”.
قد يكون من المشروع الإقرار بأن الرئيس ترامب أصاب جزئياً في بعض مزاعمه بشأن مساهماته المباشرة والفعّالة في تهدئة بعض بؤر التوتر والصراع عبر العالم، وربما المساعدة في إخماد بعض النزاعات. غير أن مبالغته في تصوير نفسه كصانع سلام عالمي تبدو غير دقيقة، خصوصاً في ظل اندفاعه نحو تأجيج توترات جديدة، كما هو الحال في الإجراءات المتخذة ضد فنزويلا والتهديدات إزاء كولومبيا، إلى جانب استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية المشتعلة منذ 2022، والتي تثير مخاوف حقيقية من تحوّلها إلى شرارة لحرب عالمية ثالثة، في ظل تصلب المواقف الأوروبية الداعمة لأوكرانيا. يضاف إلى ذلك تفاقم التوتر مع الصين في ضوء النزاع حول تايوان وتصاعد الحرب التجارية الباردة، فضلاً عن غموض العلاقة مع كوريا الشمالية ذات الاصطفاف الاستراتيجي مع بكين وموسكو.
من ناحية اخرى، ما زالت خطة ترامب “لانهاء الحرب على قطاع غزة” متعثرة وتواجه تحديات كبيرة، وسط مواصلة اسرائيل لاختراقات شبه يومية. الى جانب، المراوغة في الانتقال للمرحلة الثانية. ما يزيد المشهد تعقيداً هو تجاهل خطة ترامب حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وحقه في إعلان دولته المستقلة وفق القرارات الدولية، كمسار وحيد لانهاء هذا الصراع وللأبد. في السياق، لم يتم التوصل حتى الان الى اتفاق حول البرنامج النووي الايراني مثار الخلاف بين واشنطن وطهران، الى جانب عقبات حول مطالب اسرائيل بنزع سلاح حزب الله في لبنان. هذه العوامل تجعل احتمالية عودة الصراعات والحروب قائمة، مما يشير إلى أن تحقيق السلام الدائم الذي يتحدث عنه ترامب يتطلب معالجة هذه القضايا الجوهرية بشكل عادل وشامل وبجهود دولية تنسجم مع مبادئ الشرعية الدولية، أكثر منها مبادرات فردية قائمة على احتكار حالة الحرب والسلم، او كلاهما معاً.
بروفيسور عوض سليمية، باحث في العلاقات الدولية ، ومدير وحدة الابحاث والدراسات الدولية، ومستشاراً أكاديميأ لمدير معهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي*





