استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة: مؤشرات الأفول وإعادة التموضع الإمبراطوري وحدود التحالف الأمريكي–الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية

د. صلاح عبد العاطي

أولًا: خلفية عامة – تفكيك الأسطورة السياسية

لطالما جرى تقديم العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل في الخطاب السياسي والإعلامي العربي إما بوصفها علاقة تبعية مطلقة للولايات المتحدة، أو باعتبار أن اللوبي الصهيوني يتحكم بالقرار الأميركي تحكمًا شبه قدري. كلا التفسيرين، رغم احتوائهما على عناصر صحيحة جزئيًا، يظلان تبسيطيين وعاجزين عن تفسير التحولات الجارية.

حيث تؤكد الوقائع التاريخية والسياسية أن العلاقة الأميركية–الإسرائيلية هي تحالف استراتيجي غير متكافئ، تحكمه أولًا وأخيرًا المصلحة الأميركية العليا، وتتغير حدوده وحدّة توتره تبعًا للسياق الدولي، ولموقع إسرائيل الوظيفي في الاستراتيجية الأميركية للشرق الأوسط.

ثانيًا: إسرائيل اليوم – أزمة حادة في المكانة والدور

رغم التفوق العسكري والتكنولوجي الإسرائيلي، وامتلاك قوة قادرة علي إيذاء دول المنطقة والفلسطينين الا ان إسرائيل تواجه في المرحلة الراهنة أزمة مركبة تشمل:

1. أزمة شرعية دولية
اتساع توصيف إسرائيل كدولة استعمار استيطاني ونظام فصل عنصري، في ظل ما ارتكبته من جرائم دولية اخرها الإبادة اجماعية، في قطاع غزة، وتصاعد المقاطعة والعزلة لدي الرأي العام العالمي والأوساط الأكاديمية والسياسية والحقوقية.

2. أزمة تمثيل يهود العالم
تآكل صورة إسرائيل كـ«ملاذ آمن»، وتصدع علاقتها بقطاعات واسعة من يهود الشتات، خصوصًا الليبراليين والتقدميين، وتراجع قدرتها على احتكار سردية الهولوكوست كسلاح أخلاقي وسياسي.

3. أزمة داخلية بنيوية
انقسام سياسي ومجتمعي حاد، وصعود اليمين الديني–القومي المتطرف، وتقويض مبدأ الفصل بين السلطات، وضرب استقلال القضاء.

هذه العوامل مجتمعة حوّلت إسرائيل من «رصيد استراتيجي» إلى عبء سياسي وأخلاقي واقتصادي متزايد على حلفائها الغربيين.

ثالثًا: الولايات المتحدة – من الحماية إلى الضبط والسيطرة

تكشف التطورات الأخيرة أن الولايات المتحدة لم تعد تكتفي بدور الداعم المطلق لإسرائيل، بل انتقلت إلى مرحلة إدارة وضبط السلوك الإسرائيلي، خصوصًا عندما بات هذا السلوك يهدد صورة ومصالح الولايات المتحدة الدولية، واستقرار الإقليم، وتحالفاتها مع القوى العربية والإقليمية الصاعدة، ومصالحها في النظام الدولي المتعدد الأقطاب قيد التبلور .

في هذا الإطار، تتولى واشنطن عمليًا إدارة ملفات الحرب والتهدئة في غزة، والتحكم بملف «اليوم التالي» سياسيًا وأمنيًا، والإمساك بمفاتيح قوة الاستقرار، وإعادة الإعمار وترتيبات الحكم وشكل الكيان الفلسطيني، بما يعكس تآكل هامش التأثير والمناورة الإسرائيلية ، خاصة في ظل حكومة يمينية متطرفة باتت عبئًا حتى على داعميها التقليديين.

رابعًا: الولايات المتحدة والعالم العربي – بين الهيمنة وإعادة ضبط الإقليم

يأتي التعاطي الأميركي مع القضية الفلسطينية، ومع حرب الإبادة في غزة على وجه الخصوص، في سياق سياسة أميركية تقوم على إدارة الأزمات لا حلّها، وتكريس الهيمنة لا احترام قواعد النظام الدولي. وقد تجلّت هذه السياسة من خلال:

الفشل الأميركي الذريع في إدارة القضايا الدولية، وفي مقدمتها قضية فلسطين،

الشراكة الأميركية الكاملة في حرب الإبادة عبر الدعم العسكري والسياسي وتبني الرواية الإسرائيلية القائمة على التضليل،

توفير الغطاء الذي مكّن إسرائيل من التمادي في انتهاك القانون الدولي دون مساءلة،

الهجوم الأميركي على المحكمة الجنائية الدولية، والامم المتحدة وخاصة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، رغم دعم الجمعية العامة للأمم المتحدة لها، ما شكّل محاولة لتقويض منظومة الشرعية الدولية وتسييس المؤسسات الأممية.

أما على صعيد العلاقات الأميركية–العربية:
فتسعى واشنطن إلى إعادة هندسة الشرق الأوسط عبر مزيج من الضغوط السياسية، والابتزاز الاقتصادي، وترتيبات التحالفات الأمنية، بهدف احتواء القوى المنافسة وضبط الإقليم بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، وفي القلب منها تعزيز مكانة إسرائيل.

في المقابل، يفرض هذا الواقع على الدول العربية مسؤوليات مضاعفة، تتجاوز إدارة العلاقات الثنائية مع واشنطن، نحو بناء موقف عربي وإسلامي أكثر تماسكًا يربط المصالح الاستراتيجية العربية بالقانون الدولي وحقوق الشعب الفلسطيني، ويستثمر التضامن الدولي والامريكي الشعبي مع فلسطين والتحولات الدولية لتوسيع هامش المناورة، بدل الارتهان لسياسات الهيمنة أو التطبيع المجاني.

خامسًا: غزة كنقطة ارتكاز للتحول الاستراتيجي

أصبحت غزة العقدة المركزية في إعادة تعريف العلاقة الأميركية–الإسرائيلية:

كشفت محدودية القدرة الإسرائيلية على الحسم العسكري،

أظهرت اعتماد إسرائيل شبه الكامل على الدعم الأميركي،

نقلت مركز القرار الفعلي من تل أبيب إلى واشنطن.
كما استخدمت الولايات المتحدة غزة لإعادة هندسة الإقليم، عبر:
تحجيم النفوذ الإيراني،

إعادة توزيع الأدوار الإقليمية،

تعزيز أدوار قوى عربية وإقليمية محورية،

ربط المسار الفلسطيني بالمنظومة الإقليمية الجديدة وفق مقاربات أمنية وسياسية أميركية.

سادسًا: التحولات الإقليمية وتراجع الاحتكار الإسرائيلي

أفرزت المرحلة الراهنة تراجع النفوذ الإيراني في المشرق العربي، وصعود أدوار عربية وإقليمية أكثر استقلالية، وتراجع مكانة إسرائيل كـ«البوابة الإلزامية» للولايات المتحدة في المنطقة، ما منح الدول العربية هامشًا أوسع للمساومة السياسية وربط علاقاتها بواشنطن بملفات متعددة، من بينها القضية الفلسطينية، دون المرور الحصري عبر إسرائيل.

سابعًا: الداخل الأميركي – الجدال حول إسرائيل

تشهد الولايات المتحدة تحولًا بنيويًا في النظرة إلى إسرائيل، يتجلى في:
تراجع التأييد الشعبي لإسرائيل، خاصة بين الشباب،
تنامي النقد داخل الحزب الديمقراطي والتيارات التقدمية،
الجدال المتصاعد داخل الحزب الجمهوري بشأن الدعم غير المشروط،
تحول إسرائيل من قضية إجماع حزبي إلى ملف خلاف سياسي داخلي.
هذا التحول الداخلي يعكس أزمة ثقة متزايدة بين المجتمع الأميركي وبين سياسات إسرائيل في المنطقة، ويحد من قدرة إسرائيل على التأثير الكامل على واشنطن.

ثامنًا: استنتاجات سياسية

1. التحالف الأميركي–الإسرائيلي تحالف مصلحة لا تحالف عقيدة.
2. إسرائيل تفقد تدريجيًا قدرتها على فرض أجندتها على واشنطن.
3. الولايات المتحدة تعيد ترتيب أولوياتها الإقليمية بمعزل عن الرؤية الإسرائيلية الضيقة.
4. غزة أصبحت اختبارًا لقدرة إسرائيل على الاستقلال السياسي وقد فشلت فيه.
5. حكومة اليمين المتطرف هي العامل الأبرز في تسريع عزلة إسرائيل وتراجع مكانتها.

تاسعًا: دلالات فلسطينية – ما المطلوب؟

فلسطينيًا:
1. عدم الرهان الساذج على الخلافات الأميركية–الإسرائيلية، بل استثمارها سياسيًا وقانونيًا.
2. توسيع مسارات المحاسبة الدولية وفرض العقوبات وربطها بالرأي العام العالمي.
3. إعادة بناء استراتيجية فلسطينية موحدة تستند إلى القانون الدولي.4. إعادة بناء النظام السياسي علي اسس ديمقراطية وتعزيز الحضور الفلسطيني في معادلة الإقليم الجديد.

عربيًا:
1. الانتقال من منطق التكيف مع الاستراتيجية الأمريكية إلى التفاوض المشروط معها.
2. ربط العلاقات مع واشنطن بالعمل على إنهاء الاحتلال لا بإدارة الصراع ، واستمار الاعترافات الدولية بدولة فلسطين.
3. رفض الخروقات الإسرائيلية لوقف إطلاق النار والمماطلة الأمريكية او تحويل إعادة الإعمار إلى أداة ابتزاز سياسي أو تطبيع قسري.
4. بناء موقف عربي جماعي مستقل وان امكن لوبي عربي في الولايات المتحدة بما يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية كمحدد للاستقرار الإقليمي.
5. تنويع الشراكات الدولية وعدم الارتهان للمركز الأمريكي الآفل.

خاتمة:
تعكس استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة أن الولايات المتحدة دخلت مرحلة إدارة التراجع، وتسعى لتعويض أفولها عبر إمبريالية الموارد وإدارة الفوضى بدل بناء نظام دولي مستقر.

أما إسرائيل، فتقف عند مفترق تاريخي: إما إعادة تعريف دورها وحدودها الوظيفية، أو التحول إلى عبء متزايد علي الولايات المتحدة والحلفاء لها ، ومهدد رئيسي للأمن الاقليمي والدولي .

أما الفلسطينيون ومعهم العرب، فإن المستقبل لن يُمنح بفعل تصدعات وتراجع مكانة الآخرين، بل يُنتزع بوعي استراتيجي، وعمل عربي مشترك ونضال فلسطيني شامل وترتيب البيت الفلسطيني، واستثمار ذكي في لحظات التحول الدولي.