“اسرائيل” وهزالة الرد على الرد

راسم عبيدات

عندما يقول وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش، انه بعد اليوم، فإن ثقته بالجيش والمؤسسة العسكرية قد انتهت، فهذا مؤشر على مدى تأكل قوة الردع الإسرائيلية، فالزمان الذي كانت فيه طائرات اسرائيل وأجهزة أمنها وعلى وجه الخصوص “الموساد”، تعبث بالأمن القومي العربي وتقوم بعمليات اغتيال بحق قادة المقاومة الفلسطينية في كل دول العالم، دون أي رد يذكر على تلك العمليات، كما حصل في تدمير المفاعل النووي العراقي في تموز /1981 وكذلك منشأة نووية سورية في دير الزور/2007 ، واغتيال الرجل الثاني في حركة فتح ومهندس انتفاضة الحجر الفلسطيني- كانون أول /1988 ابو جهاد في تونس، في نيسان/1988، ومن بعد ذلك بواسطة احد عملائها اغتالت القادة الثلاثة في حركة فتح صلاح خلف ” ابو اياد” وهايل عبد الحميد وفخري العمري في تونس، في كانون ثاني /1991، وأيضاً اغتيال الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي فتحي الشقاقي في مالطا، في 26/تشرين اول 1995، واغتيال القائد في كتائب عز الدين القسام، محمود المبحوح في دبي 19/1/2010 وغيرها من العمليات ضد قادة المقاومة الفلسطينية داخل وخارج فلسطين.
هذه العمليات والإغتيالات بحق قادة المقاومة الفلسطينية وتدمير البرامج والمنشأت النووية العراقية والسورية، قالت بشكل لا لبس فيه بقوة هذا الجهاز وذراعه الطويلة، وهي خلقت أيضاً حالة من الهالة الكبيرة حول هذا الجهاز، وقدرة قوة الردع الإسرائيلية، كقوة عسكرية لا يمكن هزيمتها، وبأن جيشها لا يقهر، وجرى استدخال ثقافة الهزيمة في العقل العربي والفلسطيني، من قبل نهج التطبيع والعجز من دول النظام الرسمي العربي، وفي المقدمة منهم السادات، صاحب مقولة ” 99% من اوراق الحل بيد أمريكا”، ومن ثم أكد البعض على هذا النهج وتلك الثقافة في الحرب العدوانية التي شنتها على حزب الله في تموز/2006، بغرض تحقيق مجموعة من الأهداف الإستراتيجية المتطرفة والموجهة للداخل الإسرائيلي، شبيه بأهداف ما تطلق عليه اسرائيل معركة “السيوف الحديدية، أي معركة 7 أكتوبر، طوفان الأٌقصى، بلغة المقاومة الفلسطينية، فأهداف اسرائيل الإستراتيجية، كانت في حرب تموز/2006، تدمير قدرات حزب الله العسكرية والتسليحية واغتيال الأمين العام للحزب نصر الله، وتقليص حضور حزب الله في مؤسسات الدولة والمجتمع اللبناني، واستعادة الجنديين اللذين أسرهما حزب الله في عملية عسكرية سبقت تلك الحرب، وصولاً الى الهدف الأكبر الذي تحدثت عنه أمريكا، والتي طلبت من اسرائيل أن تشن حرباً بالوكالة عنها لأول مرة، ألا وهو ما بشرت به وزير الخارجية الأمريكي انذاك كونداليزا رايس، ما يعرف بالشرق الأوسط الكبير، ولكن كل هذه الأهداف فشلت، ولكي تتعاظم من بعدها قوة حزب الله عشرات الأضعاف على المستوى العسكري والتسليحي والإمكانيات والتقنيات والخبرة والتجربة والكفاءة، فيما يتعلق بإمتلاك صواريخ بعشرات الآلاف، وبمدايات مختلفة وقوة تدميرية وتفجيرية كبيرة وهائلة، بالإضافة الى الدقة في إصابة الهدف، وإمتلاك المسيرات الإنقضاضية، التي اثبتت قدراتها في إستهداف قواعد عسكرية اسرائيلية، والتي كان أخرها، استهداف مقر قيادة سرية الإستطلاع الإستخبارية في منطقة عرب العرامشة، والتي أوقعت 19 جندياً اسرائيليا، جراح ستة منهم في حالة الخطر الشديد. وفوق هذا وحدات الرضوان المختارة، كقوة نخبة في حزب الله، مخصصة للقيام بعمليات الإقتحام وإحتلال مواقع.
حزب الله من بعد ذلك فرض قواعد اشتباك ومعادلات ردع مع اسرائيل برا وبحراً في لبنان، والرد على اي عملية تمس أفراده أو حلفاءه، فلسطينيين وايرانيين وسوريين في لبنان.
من بعد معركة السادس من تموز/ 2006 ، بدأت قوة الردع الإسرائيلي تسير بوتيرة متسارعة نحو التآكل، فهي في حروبها التي خاضتها لاحقاً ضد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، في أعوام 2008- 2009 و2012 و2014 و2018 و2021 و2022 و2023، لم تستطع ان تحقق فيها اسرائيل أية انتصارات عسكرية، بل كانت تتعاظم فيها قوى المقاومة الفلسطينية وقدراتها وإمكانياتها القتالية والعسكرية والتسليحية، ولكي تأتي حرب السابع من اكتوبر /2023، التي ما زالت مستمرة ومتواصلة في يومها السادس والتسعين بعد المئة، تلك المعركة التي شكلت مرحلة مفصلية في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني والعربي، وأشارات الى فشل أمني وعسكري اسرائيلي كبير.
بعد معركة 7 أكتوبر تعمقت ازمة اسرائيل وإنقساماتها وخلافاتها وصراعاتها الداخلية، وهو ما استدعى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لزيارة مقري “الموساد” و” الشاباك” ولقاء رئيسيهما برنياع وغونيين، والقول بأن الإنقسام “الإسرائيلي” يجب أن ينتهي، لأن الدولة تواجه خطرا وجوديا.
تعمق المأزق وتآكل قوة الردع الإسرائيلية في قطاع غزة، مع عدم القدرة بعد 196 يومياً من الحرب المستمرة والمتواصلة على القطاع، في تحقيق أي من الأهداف الإستراتيجية الكبرى، التي خرج الجيش الإسرائيلي، من أجل تحقيقها، والمتمثلة بالقضاء على المقاومة الفلسطينية وفي القلب منها حركة حماس، والقضاء على قدراتها وإمكانياتها العسكرية والتسليحية ، بما في ذلك الأنفاق، وبما لا يشكل خطر مستقبلي على مستوطنات غلاف غزة، وكذلك إستعادة الأسرى بدون مفاوضات مع المقاومة الفلسطينية، وأسر قادة المقاومة أو قتلهم، وصولاً للأهداف الأخرى بـ”الهندسة” الجغرافية والديمغرافية لقطاع غزة، بإقامة المنطقة العازلة في شمال القطاع، والطرد والتهجير لما لا يقل عن 60 الف من سكان القطاع.
الواقع يشير الى أن المعركة إستمرت وتواصلت وذهب نتنياهو الى معركة رفح، التي يردد اسطوانته المشروخة بأنها ستحقق له الإنتصار الساحق على المقاومة وحماس، لم تعد مقنعة لقادة اسرائيل ومجتمعها، ولن تغير من المشهد شيئاً، سوى في تعميق الأزمات الإسرائيلية، والمزيد من تآكل قوة ردعها، فعضو لجنة الخارجية والأمن بالكنيست عاميت هليفي يقول عن الوضع في غزة: إن كل كتائب حماس الـ24 نشطة بخلاف ما يقوله الجيش ونتنياهو، وفيما يتعلق بالوضع على الجبهة اللبنانية يجمع المعلقون والمحللون العسكريون لجهة القول بأن المبادرة الاستراتيجية والفنون التكتيكية بيد حزب الله، وان الحكومة والجيش لا يتقنان الا التهديد الفارغ. وفيما يتعلق بالرد الإيراني على استهداف قنصليتها في دمشق، والتي ظهرت في اسرائيل ضعيفة، حيث استنجدت بأمريكا ودول الغرب الإستعماري، وحلفاءها من النظام الرسمي العربي، من أجل حمايتها والدفاع عنها ضد الرد والهجوم الإيراني، وساد قيادتها العسكرية والأمنية وجبهتها الداخلية حالة من التخبط والإرباك والذعر والخوف والإستنفار، لم تشهدها اسرائيل منذ قيامها، وثبت بالملموس أن اسرائيل هي النجمة الواحدة والخمسين في العلم الأمريكي، على نقيض كلام بن غفير الذي كان يقول لن نكون نجمة في العلم الأمريكي.
أما عن الرد الإيراني، فقد احتل الحيّز الأوسع من التحليلات والتعليقات في الكيان، حيث بدأت تظهر التوصيفات الواقعية لحجم الزلزال الذي أحدثه الردّ، فقال رئيس شعبة الاستخبارات السابق عاموس يدلين إن «الهجوم الإيرانيّ لا مثيل له في أي حرب في القرن العشرين.. حتى الروس خلال سنتين لم ينجحوا في إطلاق صلية كهذه في أوكرانيا»، بينما أكدت «القناة 13» الإسرائيلية أنه لم يسبق أن نفذت دولة في العالم هجوماً كبيراً بهذا الحجم عبر الصواريخ البالستية كما فعلت إيران، مشيرةً إلى أنه حدث أكبر من «إسرائيل». وبحسب المعلق السياسي في القناة آري شبيط، فإنّ الخطورة تكمن في امتلاك إيران قدرات دولة عظمى.
اسرائيل التي اجمع مجلس حربها على الرد على الرد الإيراني، برد قوي يجعل ايران تفكر الف مرة قبل أن تستهدف اسرائيل وقواعدها العسكرية والإستراتيجية ومواقعها الحساسة، لأن هذا الرد الإيراني بهذا الحجم والسكوت عليه يمس كثيراً بقوة الردع الإسرائيلية وبآمن اسرائيل القومي، ويشكل خطرا وجوديا عليها. مجلس حربها لم يتفق على حجمه وتوقيته، وتأجل اكثر من مرة تنفيذ الرد، وأمريكا وحلافاءها الأوروبيون، نصحوها بعدم الرد، ولكن في النهاية رضخوا لإرادتها بان يكون ردا محسوبا ومضبوطا وغير واسع لا يدفع بالمنطقة نحو الإنزلاق لحرب إقليمية، على ان تقوم اسرائيل بإبلاغ أمريكا بالرد، وهي لن تكون مشاركة في الرد، ولكنها تلتزم بالدفاع عن أمن اسرائيل .
اسرائيل المربكة والمتخوفة من الرد، والتي عقد مجلس حربها ثلاثة اجتماعات متتالية، وأجل الرد أكثر من مرة، خرجت امس وسائل اعلام أمريكية بالحديث عن رد اسرائيلي إستهدف قاعدة اصفهان الجوية بإستخدام صواريخ باليستية بعيدة المدى، ولكن مجلس الأمن القومي الإيراني الأعلى ووكالتي الأنباء الايرانيتين إرنا وتسنيم، نفت وقوع هذا الهجوم، واكدت عدم إستهداف أي من منشأت ايران النووية، وان ما جرى هو تفعيل لشبكة الدفاع الجوي بإستهداف مسيرات صغيرة الحجم، والقيود التي فرضت على الجبهة الداخلية والمطارات وحركة الطيران والرحلات جرى رفعها.
هذا الرد الإسرائيلي الهزيل والضعيف، يؤشر الى ان هذا الزمن، ليس إسرائيليا، وبأن دولة الإحتلال تنكمش وتتراجع وفي حالة من الهبوط النسبي، وتنتقل من مرحلة الهجوم الى الدفاع، ولم ترد أي تفصيلات او تبن اسرائيلي للهجوم، سوى تلميحات من عضو الكنيست عن الليكود تالي غوتليب، في تغريدة لها على موقع ” إكس” الجمعة: “صباح الخير يا شعب “إسرائيل” العزيز. صباح مرفوع الرأس بكل فخر. إسرائيل دولة قوية. نرجو أن نستعيد قوة الردع”.
يبدو بأن هذا الرد او الهجوم الهزيل بالمسيرات ناتج عن تشغيلها من قبل عملاء في الداخل الإيراني او من خلال قاعدة اربيل في شمال العراق او من أذربيجان، وهذا الرد الذي يعكس حالة القلق والخوف الإسرائيلي، فهو يؤكد على تأكل قوة الردع الإسرائيلي، وبدلاً من ان يستعيدها، فهو يسهم في تعميقها، وهو كذلك سيدفع نحو زيادة حدة الإنقسامات والتصدعات في الحكومة الإسرائيلية وفي مجلس حربها ومؤسساتها العسكرية والسياسية والأمنية، فالفاشية اليهودية وغيرها سيعتبرون ذلك خضوعا للإرادة الأمريكية ومشيئتها، على حساب قوة الردع الإسرائيلية .
هو رد لحفظ ماء الوجه، ومن أجل إنزال نتنياهو عن الشجرة، وتاكيد على ان ايران باتت تملك إمكانيات دولة عظمى، وبأنها غادرت مربع سياسة الإحتواء و”الصبر الإستراتيجي”، نحو الرد المباشر على أي استهداف اسرائيلي، لسيادتها ومؤسساتها ومنشأتها وقواعدها وأفرادها، عسكريين وسياسيين ومستشارين في ايران وخارج.
هي مرحلة أفول الزمن الإسرائيلي وإنكماشها وتراجعها، وإنتقالها من مرحلة الهجوم الى مرحلة الدفاع.

شاهد أيضاً