لا أبالغ إذا قلت بأنني أشعر بالإهانة كلما سمعت أو قرأت أحداً يتحدث عن “خلافة أبو مازن” لما يعنيه ذلك من أننا شعب يفتقر للشرعية الانتخابية، وما زال يعيش في عصر الإذعان للحكام وللتوريث الذي يتنافى مع أبسط مبادئ الديمقراطية، وخاصة لأننا لسنا ملكية فيها الملك يملك ولا يحكم، وإنما نحن في ظل نظام يُفترض أنه نظام برلماني، ولأن لدينا قانون أساسي لو تم تطبيقه لما تحدث أحد عن التوريث.
ولا أبالغ أيضاً إذا قلت بأن أكثر الناس حديثاً عن “مرحلة ما بعد أبو مازن” – كما يسمونها – هم الإسرائيليون. ولقد واجهت مراراً هذا السؤال سواء من قبل وسائل الإعلام الإسرائيلية، أو من قبل وفود أجنبية تزور إسرائيل وتلتقي مسؤولين إسرائيليين فتسمع منهم هذا الحديث في سياق التشكيك بقدرة الشعب الفلسطيني على إدارة شؤونه بنفسه والتركيز على عدم وجود ديمقراطية وحكم رشيد عند الفلسطينيين.
ولقد لاحظت في جميع الأحوال أن الإسرائيليين حين يتحدثون عن التوريث يتحدثون عنه من خلال الإشارة إلى عدم وجود آلية ديمقراطية فلسطينية للاختيار وأن “مرحلة ما بعد أبو مازن” ستشهد صراعاً واقتتالاً من أجل الكرسي، وأنهم -أي الإسرائيليين- منشغلون في موضوع ضمان أن لا تخرج الأمور من تحت سيطرتهم في تلك المرحلة.
وآخر ما قرأته في هذا الصدد هو دراسة أعدها مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي (INSS) جاء فيها أنه “مع إدراك أن السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية ضعيفة وبناء على الدلائل المتزايدة بأن غياب الشرعية أدى إلى مساس خطير بقدرة السلطة الفلسطينية على الحكم وبقدرة الأجهزة الأمنية الفلسطينية على العمل، فقد انشغلت أوريت برلوب هذا الأسبوع في البحث عما اذا كانت هناك في الضفة قيادة (بديلة) أو قيادات تتمتع بشرعية شعبية واسعة.
“وقد قامت برلوب بفحص والبحث في ثلاث مجموعات مؤثرة أساسية عادة يخرج من داخلها القادة المحليين وهي: اتحادات الطلبة الأكاديميين، السياسيون من مستوى البلديات من المستقلين، والصفوة الاقتصادية من رجال الأعمال.
“وتقول أوريت إن أعضاء هذه المجموعات التي تنتمي للصفوة الأكاديمية – رجال الأعمال- والإداريون هي الأكثر براغماتية لأنها تعيش في الضفة وليس في المنفى، وجميعها انتخبت في انتخابات حرة ولديها القدرة على التحرك وتنظيم الجماهير.”
ما أقصده من هذا المثال هو الإشارة إلى انشغال الجهات الإسرائيلية على كل المستويات بالبحث واستطلاع من سيتولى الأمر بعد غياب الرئيس عباس، أو تفكك السلطة الذي تفترض حدوثه نتيجة الصراع والاقتتال الداخلي على الوراثة.
وأتساءل إلى أي مدى ننشغل نحن في التفكير بمستقبل السلطة الفلسطينية وتداول الحكم بشكل سلس في حال غياب الرئيس.
لقد مررنا بهذه التجربة عند رحيل الشهيد الرئيس ياسر عرفات، ولكن آنذاك كان عندنا مجلس تشريعي سار المفعول ولجأنا للآلية التي وفرها لنا القانون الأساسي في البند (2) من المادة (37) بأن تولى رئيس المجلس التشريعي آنذاك الأخ روحي فتوح مهام رئاسة السلطة الوطنية مؤقتاً لمدة ستين يوما جرت خلالها انتخابات حرة ومباشرة لانتخاب رئيس جديد.
وليس سراً بأنه كان هناك من حاول التشكيك بالالتزام بالفترة المؤقتة وافترض أنه قد تتم اطالتها للاستحواذ على منصب الرئاسة ولكن الديمقراطية الفلسطينية، آنذاك، خيبت ظن المشككين وأثبتت أننا شعب يحترم قوانينه ومؤسساته.
فأين نحن اليوم من ذلك الحدث الذي يشكل مفخرة لنا جميعا! فنحن اليوم نعيش بدون مجلس تشريعي ولا يوجد لنا رئيس مجلس تشريعي ساري المفعول، ولا نستطيع تطبيق القانون الأساسي فيما يتعلق بهذا الأمر بالذات.
ولا بد من القول إنه في غياب الآلية الدستورية لملء الفراغ والانتقال من المرحلة المؤقتة إلى الوضع الدائم فإن من الممكن جداً أن يحدث صراع على الكراسي قد تكون نتيجته الاقتتال الداخلي أو فقدان كل ما تم إنجازه على طريق بناء السلطة باعتبارها كانت خطوة نحو إقامة الدولة. ولذا فلا بد من وجود آلية تسد الأبواب أمام كل من يطمع في الكرسي وكل من يعتقد أنه الوريث القادم بما في ذلك ما يمكن أن تدعيه حماس بأن رئيس المجلس التشريعي الأخير هو الأحق بالرئاسة حتى لو كانت مؤقتة، أو من يمكن أن تفرضه إسرائيل أو القوى الإقليمية لضمان مصالحها واستمرار هيمنتها.
ومع أنني لست من أنصار اصدار المراسيم بقانون وأرى أنه تم استغلالها لسن قوانين أو تعديل أخرى لا يتوفر فيه الشرط الذي وضعته المادة (43) من القانون الأساسي وهو “حالات الضرورة التي لا تحتمل التأخير” إلا أنني أقترح أن يقوم الرئيس بإصدار مرسوم بقانون يتضمن إضافة الكلمات التالية للبند (2) من المادة (37): ” وفي حال تعذر وجود رئيس المجلس التشريعي تناط هذه المهمة برئيس المجلس الوطني مع الالتزام التام بأحكام هذه المادة”.
ومع أنني لا أستبعد أن يقوم البعض بالتصدي لهذا الاقتراح والتشكيك بقانونيته، إلا أنني أعتقد بأن حاجتنا الماسة لإيجاد آلية تضمن العودة لطريق الشرعية الانتخابية وتسد الطريق أمام التوريث أو الاقتتال على السلطة تبرر وتعطي الشرعية لهذا الاقتراح. والغاية تبرر الوسيلة وخاصة في الحرب والسياسة.