لا نعتقد أن ثمة صورة أشد هولاً من هذه الصورة “الأب الذي باع جلد أبنائه لصانعي الأحذية” , للكاتب الفيتنامي نغوين دوي هين وقد وردت في احدى قصصه لدى تخلي ريتشارد نيكسون عن قادة فيتنام الجنوبية الذين تعاملوا معه لسنوات . هذا ما لفت الكاتب الأوكراني أندريه كوركوف الذي ترجمت مؤلفاته الى 35 لغة , حين لاحظ أن الرئيس دونالد ترامب يحاول أن “يبيع” أوكرانيا للقيصر مقابل الاستيلاء على المعادن النادرة فيها .
كوركوف الذي اتخذ من الحيوانات شخصيات له رأى في الرئيس الأميركي “الغراب بالياقة البيضاء” . “نموذجً فذ للمكيافيلية” بأكثر وجوهها بشاعة , بحيث “لا يتردد في وضع أولاده في المزاد العلني” !
دومينيك دو فيلبان , رئيس الحكومة الفرنسية الأسبق , خائف من ادارة “الكونسورتيوم العقاري” للعالم , بمنأى عن الاطار الأخلاقي الذي صاغه الرئيس وودرو ويلسون ,الذي يركز على شفافية العلاقات بين الدول , خصوصاً مع تنامي تأثير ثقافة الأسواق على هذه العلاقات , داعياً االرئيس ترامب الى التنبه بأن الكرة الأرضية وجدت لاستضافة الكائنات البشرية لا القردة .
لاحظ أن الأمبراطوريات غالباً ما تأكل بعضها البعض . هذا منطق الأشياء . بل هذه قوة الأشياء . ولكن في نظر المفكر الأميركي اليميني روبرت كاغان “باستطاعة الولايات المتحدة أن تهزم اي قوة عسكرية ولو كانت بقيادة الشيطان شخصياً …” . غير أن رجلاً بتلك النظرة الفوقية الى العالم , لا يمكن له أن يستشعر التآكل الداخلي في البنية السياسية للدولة , وحتى في بنائها الطبقي . أليس هذا ما أدى الى غروب الأمبراطورية الرومانية “حتى لبدا آلهة الرومان وهم يهيلون التراب عليها” , كما يقول المؤرخ البريطاني بول كنيدي .
آفييفا تشومسكي , المؤرخة اليهودية الأميركية , ترى أنه اذا كان التماهي الايديولوجي بين دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو حقيقياً بذلك المنحى الدموي المروع , كيف يمكن أن تكون أمبراطورية , وسط تلك التضاريس التاريخية والاستراتيجية الشديدة التعقيد والتي تتحكم بمسار العلاقات الدولية , رهينة أفكار ميتافيزيقية “قد تجرنا الى السقوط في تلك الحفرة البعيدة كلياً عن المفاهيم الفلسفية الحديثة للدولة” , بعدما كانت تشومسكي نفسها قد وصفت تلك الحفرة بـ”الحفرة الميثولوجية” وحيث كان السقوط الدرامي للآلهة القدامى …
العديد من أهل النخبة في الولايات المتحدة بدأوا يتصورون أن رئيس الحكومة الاسرائيلية يجلس القرفصاء في راس الرئيس الأميركي السابع والأربعين . المثير هنا أنه يوجد بين منظري حزب “القوة اليهودية” وحزب “الصهيونية اليهودية” , بتلك المخالب التوراتية , من يرى أن نتنياهو يذهب أكثر مما ينبغي في محاكاة الرئيس الجمهوري , الخارج للتو من سوق العقارات , بعيداً عن أي ثقافة لاهوتية , ما يعني أن جاذبية المال “الذي يتوافر بكثرة في بعض بلدان الشرق الأوسط” يمكن أن تأخذه الى طرقات أخرى بعيدة كلياً عن المقتضيات الاستراتيجية للدولة العبرية . بن غفير يرفض أن تكون “أرض الميعاد” “أريكة أميركية” أو “محظية أميركية” !
ولكن ألا يلاحظ من مواقع التواصل القريبة من الليكود أسئلة من قبيل “ما الذي يمنع الرجل الذي باع أوكرانيا للقيصرمن أن يبع اسرائيل لأولئك الذين يصرون على قيام الدولة الفلسطينية التي أشبه ما تكون بالقنبلة في الخاصرة ؟” . ولكن ألا يرى المعلقون الليبراليون في صحيفة “ها آرتس” بأنها “رقصة الفالس مع المستحيل حين نحاول اقناع أنفسنا بعدم وجود الفلسطينيين على سطح الأرض” . أما صحيفة “اللوموند” الفرنسية فلا تستبعد أن يكون دونالد ترامب صورة حديثة عن الكاوبوي الذي يترك لحصانه العنان في الطريق الى الذهب (الالدورادو) دون أن تعنيه أي قضية أخرى . من هنا ترى أن التخلي عن أوكرانيا هو بمثابة التخلي عن القارة الأوروبية بأكملها …
لكأن العالم الآن , وبذلك النوع من الفوضى ومن الضوضاء أقرب ما يكون الى لوحة بابلو بيكاسو “الغرنيكا” , ولكن بريشة دونالد ترامب , حتى أن رئيس الأركان الفرنسي الجنرال فابيان ماندون قال “ان من الضروري أن تستعيد البلاد قوتها المعنوية لتقبّل (فكرة) أننا سنعاني من أجل حماية هويتنا وأن تكون مستعدة لفقدان أبنائها” . الرجل يتوقع أن ينتهي فلاديمير بوتين من حربه في الشرق الأوروبي لينتقل الى الغرب الأوروبي . هذا ما يثير ذهول السياسي الفرنسي جان ـ لوك ميلانشون “ما هو الذي يمكن أن يغوي القيصر بالقارة العجوز , وقد حوّلها الأميركيون الى جثة هامدة ؟” , ليبدي تخوفه من أن يحوّل ترامب الكرة الأرضية بدورها الى جثة هامدة …!!





