في مجتمعاتٍ مأزومة، لا يكون السؤال عن الثقافة ترفاً، بل ضرورة وجودية ملحّة. فالثقافة ليست زخرفاً على هامش الحياة، بل هي نسيجها الداخلي، الروحي، والرمزي؛ ولذا فإنّ التأمل في معناها وتاريخها وتحولاتها يشكل مدخلاً ضرورياً لفهم المسألة الإنسانية برمّتها. وهنا تتقاطع الثقافة مع الأنثروبولوجيا، لا باعتبار الأخيرة علماً تجريبياً فحسب، بل كعدسة كاشفة للحضارات، ومرآة تعكس التحولات في البنى الرمزية والذهنيات والتمثلات.
لقد صاغ السير إدوارد بيرنت تايلور، مؤسس علم الأنثروبولوجيا الثقافية، تعريفًا بالغ التأثير للثقافة بوصفها “ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعادات”، مؤكداً بذلك شمولية الظاهرة الثقافية واتساع مجالاتها، بحيث تشمل كل ما يصنع الإنسان بوصفه كائناً اجتماعياً. من هنا، تغدو الثقافة، في مفهومها الأنثروبولوجي، غير قابلة للاختزال، ولا للهيمنة الأيديولوجية، إذ إنها نسيج حيّ، ينمو، ويتحوّل، ويعكس تعقيدات الجماعة البشرية وتنوعها.
_ المثقف بين وعي الأنثروبولوجيا وسلطة الغفلة.
في ضوء هذا الفهم الشمولي، لا يعود المثقف مجرّد ناقل للمعلومات، بل فاعلاً أنثروبولوجياً بامتياز: عينٌ ناقدة، وعقلٌ مشتبك بالواقع، وضميرٌ يشتغل على تفكيك البُنى الذهنية السائدة، لا تأبيدها. لكن المأساة التي نعيشها – في العالم العربي خصوصاً – تكمن في خيانة النخب لموقعها، وفي فقدان المثقف لدوره الطبيعي في ممارسة النقد، و”الانشقاق الرمزي” عن البُنى السلطوية والمعرفية المتكلسة.
لقد ابتُليت مجتمعاتنا بنموذجين متنافرين: أحدهما محافظٌ منغلق على سرديات الماضي، يرفض مساءلتها أو تطويرها، والآخر تغريبيٌ مستلب، ينهل من الثقافة الغربية دون تمثّل نقدي أو وعي جذري بسياقاتها. كلا النموذجين فشلا في بناء “نظرة عالمية” (Weltanschauung) متماسكة، كما أشار إلى ذلك يوهان هيردر، فالمثقف لا يكون مثقفاً بحق ما لم يمتلك قدرة على الربط بين جذوره الحضارية ومنظوره الكوني.
_ الأنثروبولوجيا: علم الإنسان ومحنة الإنسان.
يُقدِّم علم الأنثروبولوجيا الثقافية أدوات معرفية لفهم هذا التيه. فكما بيّن أدولف باستيان، فإنّ كل الثقافات تشترك في “أفكار أولية” تنتج عنها “أفكار شعبية” مختلفة بحسب السياق. وهذا يدحض فكرة “التفوّق الثقافي” أو “التقدّم الطبيعي” لشعوب على أخرى، ويدعو إلى مساءلة التصنيفات العنصرية التي فرّقت طويلاً بين “المتحضّر” و”البدائي”، والتي وظّفتها الإمبريالية لتبرير سيطرتها وتفوقها.
وقد كان فرانز بواس من أوائل من استلهم هذه الرؤية وهاجر بها إلى الولايات المتحدة، حيث دافع عن نسبية الثقافة، ورفض الأحكام المسبقة التي تجعل من الغرب معياراً كليّاً. ومثله، دافع هيردر عن التنوع الإبداعي للإنسان، مؤكداً أنّ “العقل ليس القيمة الوحيدة التي تمنح المعنى”، بل إن الإبداع، والرمز، والأسطورة، كلها عناصر تأسيسية في تشكيل الوعي البشري.
_ محنة الثقافة العربية: بين الذوبان والتكلس.
في سياقنا العربي، ما زلنا نراوح بين الانغلاق التبريري والتغريب العاجز. وكثير من مثقفينا لم يسلكوا مسار التكوين الأنثروبولوجي العميق، بل اكتفوا بنقل مقولات جاهزة، أو الاندماج في البُنى السلطوية. هكذا أفرغت الثقافة من بعدها التحرّري، وتحولت إلى أداة في يد النخب الحاكمة، وصار المثقف خادماً لا ناقداً، مروّجاً لا فاحصاً، جزءاً من آلة السلطة لا خصيمًا لها.
إنّ الأهمال الممنهج لموقع المثقف ودوره، أدّى إلى فراغ معرفي رهيب، استغلّه “الرويبضة”، كما وصفهم الحديث النبوي: “رجل تافه يتحدث في أمر العامة”، وتمت مكافأتهم بالمناصب والسلطة بينما تم تهميش كل من تمسك بالمعرفة النقدية. وهذا بدوره يفتح الباب للفوضى – بالمعنى الذي صاغه الشاعر ماثيو أرنولد – حين تغيب الثقافة ويعمّ الصخب والتفاهة وتُلغى المعايير.
_ الثقافة والهوية: سؤال التكوين والرهان القادم.
هل يمكن إعادة بناء ثقافة عربية حديثة دون المرور بإعادة تأسيس أنثروبولوجي للهوية والمعنى؟ هل يمكن لثقافتنا أن تتجاوز أزمتها دون فهم عميق للإنسان العربي في تاريخه ونفسيته وتمثلاته الرمزية والاجتماعية؟ لا يمكن ذلك دون أن نمتلك رؤية مركبة، تنظر إلى الثقافة لا كحِلية زائدة، بل كمنظومة تكوينية عميقة، هي قلب الإنسان وجوهر المجتمع.
لقد دعا الفلاسفة منذ كانط إلى الخروج من “القصور الذاتي”، لكن الأمر لن يتحقق إلا بــ”الجرأة على التفكير”، كما قال في شعاره الشهير. ولعل ما يواجهه المثقف العربي اليوم هو عطب مزدوج: قصور في الجرأة، وضعف في التكوين. فإذا لم يمتلك الإنسان شجاعة التفكير الحرّ، ومعرفة الظواهر في عمقها، فسيبقى مستهلكاً للثقافة، لا منتجاً لها.
— خاتمة:
في ظل ما نعيشه من تآكل ثقافي وتصدّع رمزي، تعود الأنثروبولوجيا لتذكّرنا أن الإنسان ليس كائناً ميكانيكياً، بل شبكة من المعاني، وأنّ الثقافة ليست مخزوناً معرفياً فقط، بل طريقة في فهم الذات والعالم. ولكي تخرج الثقافة العربية من محنتها، فلا بد أن يتحوّل المثقف إلى أنثروبولوجي حقيقي: ناقد للهياكل، غائص في الرموز، منقّب في الذاكرة الجماعية، رافض لأن يكون بوقًا، وساعيًا ليكون ضميراً.
فالمستقبل لا يصنعه الأقوياء وحدهم، بل تصنعه الثقافات التي تعرف ذاتها، وتنتج خطابها، وتواجه هشاشتها بلا وجل. ولا خلاص بلا معرفة، ولا معرفة بلا وعي أنثروبولوجي بأعماق الإنسان وخرائط هويته.