هارتس:
الكفاح المسلح الطويل لم يحقق نتائج، والمفاوضات فشلت مرة تلو الأخرى، والدبلوماسية بقيت عاجزة. في هذه الأثناء، انتقل العالم العربي إلى أجندة جديدة، بينما تواصل إسرائيل ترسيخ سيطرتها الفعلية على الضفة الغربية، وتدفع قدمًا بخطة ترحيل لسكان غزة دون أن تدفع ثمنًا سياسيًا.
هناك لحظات ينكمش فيها تاريخ كامل إلى شعور واحد بالعجز – وهذا هو حال الفلسطينيين اليوم. القمم التي عقدها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع حكام السعودية وقطر والإمارات تبدو كأنها ذروة عصر جديد: مئات مليارات الدولارات استُثمرت في صفقات سلاح، بنى تحتية، واتفاقات اقتصادية.
لا يزال ترامب يلعب دورًا محوريًا في تشكيل “شرق أوسط أمريكي جديد”، هدفه إزاحة الصين وتقييد النفوذ الإيراني. لكن وسط هذه الاستثمارات الهائلة والرؤية الجديدة للمنطقة، بقيت قضية واحدة خارج الحسبان: لم يُعَد حتى مخطط أولي لإدخال مساعدات إنسانية إلى غزة.
القمة العربية التي انطلقت اليوم (السبت) في بغداد، كسابقاتها في العقدين الماضيين، هي استمرار لتقليد الشعارات والعبارات الجوفاء التي لم تُترجم إلى أفعال. ممثلو الدول العربية لا يقدّمون آليات ضغط فعلية، ولا يدرسون اتخاذ خطوات عملية تجاه إسرائيل، في حين تُدفع القضية الفلسطينية – التي كانت ظاهريًا في قلب الوجود السياسي العربي – إلى الهوامش، وتُخفى خلف خطابات عديمة الجدوى.
في المشهد الحالي، تبرز ثلاثة إخفاقات استراتيجية؛ الأعمدة الثلاثة التي استندت إليها آمال الفلسطينيين انهارت:
1. الكفاح المسلح، الموصوف في الخطاب الديني والسياسي بـ”الجهاد من أجل الله” وفي الرواية الإسرائيلية بـ”الإرهاب”، فقد شرعيته الإقليمية والدولية على حد سواء. لم تحقق فصائل المقاومة مكاسب سياسية، ولم تعزز الدعم الشعبي، بل أدت إلى المزيد من الدمار والمعاناة للفلسطينيين.
2. مسار المفاوضات، منذ اتفاقيات أوسلو، مرورًا بمحادثات كامب ديفيد ومؤتمر طابا، ووصولاً إلى عروض رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت، لم يُفضِ إلى أي تقدم ملموس. وكل مرة اقترب فيها أمل قيام دولة فلسطينية، جاء انهيار داخلي أو خارجي ليقضي عليه.
3. الركيزة الدولية – المتمثلة بقرارات الأمم المتحدة، محكمة لاهاي، الضغط الدبلوماسي من أوروبا، والقنوات الإنسانية ومنظمات حقوق الإنسان – تآكلت في ظل استقطاب عالمي، مصالح إقليمية، وأولويات جديدة. أصبح “السعي إلى العدالة” مجرد مسرح تضامن فارغ، يقف فيه الفلسطينيون وحدهم على الخشبة.
حتى داخل إسرائيل، ورغم بعض الجهود من نشطاء ومثقفين وقلة من السياسيين اليساريين، لا يوجد اليوم أي طرح حقيقي لحل بديل. القيادة الإسرائيلية ترسّخ الوضع القائم، تستفيد من التواطؤ الإقليمي، ولا ترى حاجة لحل دائم. الاحتلال أصبح شفافًا، وتوقف عن إثارة الشعور بالإلحاح أو الحضور في الخطاب العام.
الصورة الراهنة تُظهر أن الفلسطينيين عالقون في “مثلث برمودا سياسي”: الكفاح المسلح لم يُجدِ، المفاوضات فشلت، والدبلوماسية بلا أنياب. كل طريق كان يمكن أن يُرسم من خلاله مستقبل مختلف – أُغلق.
العالم العربي تغيّر، المجتمع الدولي منشغل بنفسه، وإسرائيل تواصل ترسيخ سيطرتها الفعلية ونظام الفصل العنصري في الضفة الغربية، وتدفع بخطة ترحيل في غزة دون ثمن سياسي أو تهديد فعلي يمكن أن يغيّر اتجاهها.
شعور الفلسطينيين بالعجز ليس جديدًا، لكن هذه المرة لم يعد مؤقتًا، بل صار جزءًا من الواقع ذاته. وكما في كل أزمة عميقة، قد يُنتج الوضع الراهن صحوة لا يمكن التنبؤ بحجمها وتداعياتها – إلا أن الشعب الفلسطيني يشهد اليوم انهيار أهدافه الاستراتيجية، في ظل غياب الرؤية والدعم، ويبقى أمام سؤال واحد يتردد صداه: إلى أين من هنا





