في ٢٨ حزيران الماضي، كتبت هنا مقالاً بعنوان “لماذا ستهاجم إسرائيل لبنان بكل قوتها”، قلت فيه إن من يقود دولة الاحتلال هي قيادة غير عاقلة وإنه ولهذا السبب تحديداً ضمن أسباب أخرى أهمها الرغبة بالنزول عن الشجرة التي صعدت عليها سيذهب الاحتلال للحرب على لبنان.
لهذه الحرب أهداف معلنة وأخرى غير معلنة.
المعلن منها هو فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة وإعادة المُهجرين من المستوطنين في شمال فلسطين التاريخية إلى مستوطناتهم.
هذه الأهداف لن تتحقق ودولة الاحتلال تعي ذلك لأن ما عجزوا عن تحقيقه في غزة من خلال حرب الإبادة لن يحققوه في لبنان مع المقاومة اللبنانية التي قالت لهم علنا: “افعلوا ما استطعتم”.
أما غير المعلن من الأهداف فهو الآتي:
أولاً: ضرب الحاضنة الشعبية للمقاومة اللبنانية بقوة حتى لا تُقدم هذه المقاومة على أي مواجهة مفتوحة معهم لعقد أو عقدين من الزمان تتمكن فيها دولة الاحتلال من إعادة ترميم قدراتها وردعها واستعادة الثقة بنفسها.
ثانياً: محاولة جر المقاومة اللبنانية للكشف عما لديها من قدرات عسكرية قبل الإقدام على حرب شاملة معها.
بعد تحقيق هذين الهدفين، سيتم النزول عن الشجرة بالطلب من الولايات المتحدة التدخل سياسياً للتوصل إلى حلول في لبنان وغزة.
هذه الحلول لن تكون بعيدة عما تريده المقاومة، ودولة الاحتلال ستقبل بها لأنها تدرك أن حجم الكارثة في غزة ولبنان لن يسمح بحروب جديدة لعقدين من الزمان.
في غزة ستدعي دولة الاحتلال كذباً أنها تمكنت من تحقيق النصر وأنها دمرت كتائب المقاومة الفلسطينية، أما في لبنان فهي ستدعي النصر بعد إعادة المُهجرين من شمالها وستضيف إليه إنها تمكنت من تدمير جزء مهم من قدرات المقاومة اللبنانية.
لكن الحقيقة أنها ستخرج من هذه الحرب مهزومة وأكثر ضعفاً. ستخرج ذليلة من غزة، عاجزة أمام المقاومة اللبنانية، أقل ثقة بنفسها وبردعها وبجيشها وينخرها الصراع الداخلي والخوف من المستقبل.
تدرك دولة الاحتلال أنها لا تستطيع هزيمة المقاومة اللبنانية وهي بالتالي لا تستطيع إعادة مُهجريها دون اتفاق سياسي، وإن هذا الاتفاق غير ممكن بفصل الجبهات عن بعضها لأن المقاومة اللبنانية لن تقبل ذلك.
حرب الاستنزاف في غزة المُسندة من لبنان واليمن والعراق أضعفت وأنهكت دولة الاحتلال كثيراً وهي لا تستطيع الاستمرار سنة أخرى أو أكثر في نفس الوضع. في عقلية الاحتلال، الخلاص من هذا المأزق الذي وجدت نفسها فيه يتحقق بطريقين:
القبول الصريح بشروط المقاومة في غزة والمدعومة من محور يساندها، وهو ما يعني الإقرار بالهزيمة ليس أمام المقاومة الفلسطينية فقط، بل أمام محور كامل. هذا يؤدي إلى انكماش دورها الوظيفي في الشرق الأوسط، وخسارتها لتحالفاتها الإقليمية التي عملت على بنائها، والأهم هو تفاعلات هذه الهزيمة في دولة الاحتلال نفسها.
الهزيمة ستجعل الإسرائيليين لا يثقون لا بجيشهم ولا بقادتهم ولا بقدرتهم على البقاء في المنطقة بنفس العقلية الاستعلائية وستفرض عليهم التفكير بقبول شروط السلام إن أرادوا العيش بسلام.
الخيار الثاني أمامهم هو الذهاب لضرب الحاضنة الشعبية للمقاومة اللبنانية للادعاء بأنهم فعلوا في لبنان ما فعلوه في غزة، وأن “هذا الفعل”، هذا الإجرام، هو النصر الذي سيتم بيعه لشعب دولة الاحتلال.
قادتهم السياسيون والعسكريون سيقولون لشعبهم: أضعفنا المقاومة اللبنانية وهي لن تجرؤ على مواجهتنا أو التصدي لنا خلال عقدين من الزمان.
بعد كل هذا القتل والتدمير، سيطلبون وقف الحرب من “الأميركي” وبشروط المقاومة، لأنهم لا يستطيعون الاستمرار في الحرب ولا يستطيعون تحقيق أهدافها المعلنة حتى لو استمرت عاماً آخر أو أعواماً أخرى.
السؤال هنا ليس المتعلق بما إذا كانت دولة الاحتلال قادرة على تحقيق أهدافها المعلنة، فهي لن تتحقق بالتأكيد ودولة الاحتلال تدرك عجزها عن تحقيقها، والمقاومة اللبنانية، كما الفلسطينية، أعدت نفسها منذ زمن بعيد لهذه المواجهة وهي قادرة على الاستمرار فيها لسنوات وليس لأسابيع أو أشهر.
السؤال هو هل يُمكن منع دولة الاحتلال من تحقيق أهدافها غير المعلنة: ضرب القاعدة الشعبية للمقاومة وتحقيق “نصر” نفسي بأن لديهم القدرة على “الإبادة”؟ واستدراج المقاومة اللبنانية للكشف عن إمكانياتها قبل الحرب الشاملة؟
في غزة لم تتمكن المقاومة الفلسطينية من حماية المدنيين لأنها لا تمتلك القوة العسكرية لمنع الاحتلال من استهدافهم. هل نحن أمام حالة مشابهة في لبنان؟
بذلت المقاومة اللبنانية جهداً كبيراً لتجنب الحرب الشاملة وما زالت تفعل، وهدفها من ذلك هو حماية المدنيين اللبنانيين وحاضنتها الشعبية: حصر قتال الإسناد في عمق معين، والكشف عما أحضره الهدهد، والكشف عن “عماد ٤”، جميعها كانت رسائل لدولة الاحتلال حتى لا يقدم على مهاجمة المدنيين في لبنان وعلى تدمير بنى لبنان التحتية.
مع دولة أهدافها واضحة وهي ضرب المدنيين لعزل المقاومة عن قاعدتها، لا يبدو أن رسائل المقاومة اللبنانية قد وصلت. تم اعتبارها كما يبدو “معلومات” للاستفادة منها في الحرب، بمعنى توقع أين ستكون ضربات المقاومة.
تحدي حماية المدنيين هو التحدي الأكبر أمام المقاومة اللبنانية.
تاريخياً نجحت المقاومة اللبنانية في ذلك: تفاهمات نيسان العام ١٩٩٦ بتجنيب المدنيين الحرب وقدرتها أيضاً على تجنيبهم القتل في حرب العام ٢٠٠٦ حيث لم يسقط أكثر من ألف مدني. لكن اليوم تبدو دولة الاحتلال عازمة على استهدافهم حيث وصل عدد الشهداء إلى أكثر من ٧٠٠ مدني في يومين.
سننتظر لمعرفة كيف ستتعامل المقاومة اللبنانية مع الواقع الجديد. ما يمكن قوله بثقة هو أن “حماية المدنيين” اللبنانيين في صلب عقيدة المقاومة اللبنانية.
أما ما يتعلق بمحاولة “جر” المقاومة اللبنانية للكشف عما لديها قبل الحرب الشاملة (بمعنى حرب فيها اجتياح بري)، فإن هذا الهدف كما يبدو لن يتحقق. لم نشاهد للآن استخدام المقاومة لأي وسائل قتالية لم تستخدمها سابقاً.
من المرجح أن المقاومة اللبنانية أعدت نفسها لسيناريوهات متعددة من الحرب وهي ستستخدم ما أعدته من وسائل قتال لكل سيناريو ولن تنجر لما تريده دولة الاحتلال.
يدفع لبنان وشعبه العظيم ثمن رجولته وعروبته وإنسانيته، وللأصوات التي تتهم المقاومة بالمغامرة أو لتلك التي تتهمها بالتقصير نقول لها: عليكم أن تخجلوا من أنفسكم.