حين تتحول الحرب إلى إبادة، ويصبح القتل اليومي مشهدًا عاديًا، لا يثير سوى بعض البيانات الباردة والاهتمام العابر، ندرك أن الإنسانية تعيش أخطر لحظاتها وأكثرها سقوطًا. ما يجري اليوم في غزة ليس صراعًا عسكريًا متكافئًا ولا مواجهة بين قوتين، بل عملية إبادة منظمة تتصاعد بصمت قاتل، جريمة تُدار تحت أضواء باهتة ووسط صمت دولي يثير الاشمئزاز. إنها ليست مجرد حرب، بل مشروع محو، يدمج بين الحديد والنار من جهة، والتعتيم الإعلامي والحرمان من الصوت من جهة أخرى. هنا، يلتقي الموت بالحصار، ويلتقي القصف بال blackout الإعلامي، في محاولة لتدمير الإنسان مرتين: مرة بجسده، ومرة بذاكرته وروايته.
إنّ قرار قطع الإنترنت والاتصالات في غزة ليس تفصيلاً تقنيًا كما يحاول البعض تصويره، بل أداة سياسية واستراتيجية عسكرية، تهدف إلى خنق الشهادة ومنع الصور والفيديوهات من الوصول إلى العالم. هذا الانقطاع المقصود يضع الشعب الأعزل في عزلة مطلقة، وكأنّ القاتل يقول: “سأقتلكم وأمنع حتى صرختكم من العبور”. وفي لحظة كهذه، تتحول تكنولوجيا العصر التي كانت بوابة للتوثيق والحرية إلى سلاح صامت في يد المستعمِر، يتيح له أن يرتكب أفظع الجرائم دون أن يُفضَح.
لكن الأخطر من ذلك هو الصمت الدولي الذي يرافق هذه الإبادة. فمنظمة الأمم المتحدة، التي وُلدت على أنقاض حربين عالميتين لمنع تكرار المجازر، تقف اليوم عاجزة أو متواطئة، مكتفية بإحصاء الضحايا. مجلس الأمن، الذي يُفترض أن يكون حصنًا للسلم العالمي، يتحول إلى مسرح للمساومات السياسية، حيث يُستخدم حق الفيتو كسلاح لحماية الجلاد ومنع أي إدانة أو تحرك حقيقي. أما الدول الغربية التي ترفع شعارات الحرية وحقوق الإنسان، فإنها تسقط في تناقضها التاريخي، تدين الجرائم في أوكرانيا، لكنها تبرر نفس الجرائم حين يكون الضحية فلسطينيًا. هنا تنكشف ازدواجية المعايير بأبشع صورها، ويظهر أن القانون الدولي مجرد أداة انتقائية تُستعمل حسب الهوية والعرق والجغرافيا.
لعل المأساة ليست جديدة على الإنسانية. فقد عرف العالم في رواندا عام 1994 مجزرة رهيبة ذهب ضحيتها أكثر من 800 ألف إنسان في غضون مئة يوم، فيما وقفت الأمم المتحدة عاجزة عن التدخل رغم وجود قواتها هناك. وفي البوسنة والهرسك، شهد العالم مجزرة سريبرينيتسا عام 1995 التي راح ضحيتها آلاف المسلمين، رغم إعلان المنطقة “منطقة آمنة” تحت حماية الأمم المتحدة. كانت النتيجة واحدة: تواطؤ بالصمت، عجز مقصود، وتكرار مريع لفشل المنظومة الدولية. واليوم، في غزة، تتكرر ذات المأساة، مع فارق أنّ الجريمة تُرتكب أمام أعين العالم في زمن الإعلام الرقمي، حيث تصل المعلومة في ثوانٍ، لكن يتم حجبها عمدًا، ليبقى صوت الضحايا محاصرًا.
إنّ الإبادة ليست مجرد أرقام تُنشر في التقارير، بل وجوه وملامح وأحلام تُمحى. هي أطفال يُقتلعون من بين الركام، نساء يدفنّ أحباءهن بأيديهن، عائلات تُباد بأكملها في قصف واحد. هي جثامين تُحتجز في الثلاجات أو تحت الأنقاض، كي يُحرم ذووها حتى من حق الوداع. وهي أيضًا ذاكرة جماعية مهددة بالطمس، لأن منع التوثيق يهدف إلى جعل الجريمة بلا أثر، وكأنها لم تكن.
ما يزيد خطورة هذه المرحلة أن الصمت لم يعد مجرد غياب للتفاعل، بل صار جريمة مضاعفة. الصمت الدولي يعني عمليًا إعطاء الضوء الأخضر لاستمرار المجازر، وتوفير غطاء سياسي لمرتكبيها. وحين تسكت القوى الكبرى، يسكت الإعلام العالمي، وحين تسكت الحكومات، يصير صوت الشعوب مُقيّدًا. لكن التاريخ علمنا أن الإبادة لا تنتهي بالصمت، بل تخلد في الذاكرة وتصبح وصمة عار على جبين كل من تجاهلها. كما قال الفيلسوف “إدموند بيرك”: “كل ما يلزم لانتصار الشر هو أن لا يفعل الأخيار شيئًا”.
إنّ ما يجري في غزة اختبار أخلاقي للعالم بأسره. هل يختار أن يقف في صف الإنسانية، أم في صف الجريمة؟ هل يتجرأ على كسر جدار الصمت وإيقاف آلة الإبادة، أم يستمر في التبرير والتجاهل؟ كل صوت يعلو اليوم، كل كلمة تكتب، كل صورة تُنشر، هي مقاومة للإبادة، وإنقاذ للذاكرة من محو متعمد. لم يعد التضامن مجرد شعارات، بل صار واجبًا أخلاقيًا وإنسانيًا، لأن الضحايا لا يملكون رفاهية الانتظار.
لقد فشلت المؤسسات الدولية في امتحانها الأخلاقي مرارًا، لكن الشعوب قادرة على قلب الموازين بكسر هذا الصمت. فالتاريخ لا يرحم، والذاكرة لا تُمحى، والعدالة وإن تأخرت، فإنها قادمة. الإبادة التي تتصاعد بصمت في غزة ستبقى شاهدة على زمنٍ انكشفت فيه حقيقة الإنسانية: إما أن تكون مع الحياة والعدالة، أو أن تسقط في وحل الجريمة بالصمت والتواطؤ.
إنّ مسؤوليتنا اليوم لا تقف عند حدود الحزن أو الغضب، بل تتجسد في كسر الصمت، في رفع الصوت عاليًا حتى لا يكتمل المخطط، وحتى لا يتحول الدم إلى مجرد خبر عابر. لأن الإبادة لا تتغذى فقط على الصواريخ والقنابل، بل على الصمت أيضًا، والصمت حين يطول يصبح قاتلًا مثل السلاح تمامًا.