الإيرانيون كما عرفتهم: شعبٌ وحضارة ودولة إسلامية في قلب العاصفة

المستشار د. أحمد يوسف

في قلب الشرق الإسلامي، تتربع إيران كحضارة ضاربة في جذور التاريخ، ودولة لها مشروعها المختلف، الذي لا يشبه سواها في الإقليم.. فمن فارس القديمة، إلى إيران الثورة، ومن قم إلى طهران، ثمة سردية لا يمكن تجاوزها، أو اختزالها في خطاب التحريض أو التصنيف الأيديولوجي.
لقد أتيح لي، من خلال تجربتي الشخصية، أن أتعرف إلى إيران والإيرانيين عن قرب، خلال سنوات إقامتي في الولايات المتحدة للدراسة والعمل، حيث التقيت العديد من الطلاب والدبلوماسيين الإيرانيين، وكانت بيننا حوارات فكرية وثقافية عميقة حول العالم الإسلامي وتحدياته. كما تلقيت في أواخر تسعينيات القرن الماضي دعوة رسمية مع عدد من رؤساء المراكز والجمعيات الإسلامية في أميركا لحضور مؤتمر الوحدة الإسلامية في طهران، إذ سنحت لي الفرصة للقاء الرئيس محمد خاتمي برفقة شخصيات عربية وإسلامية بارزة.
وقد حملتني تلك الزيارة إلى ما هو أبعد من القاعات الرسمية، وذلك بلقاء العديد من الشخصيات السياسية والدينية والمثقفين، لكني أيضًا تجولت في الأسواق، وتحدثت مع بائعين وأفراد من أسر إيرانية بسيطة، فاكتشفت من خلالهم عمق الاحترام والمحبّة الصادقة التي يحملها الإيرانيون تجاه فلسطين، وتعاطفهم الكبير مع شعبها، ودعمهم الثابت لحقه في التحرير والعودة.
هذه المشاهد والتجارب، هي التي كوّنت لديّ صورةً أكثر توازنًا وواقعية عن هذا البلد الطيب وشعبه المضياف، وهو ما أود مشاركته اليوم مع القارئ العربي، في محاولة لتقديم فهم أعمق لإيران: شعبًا، وحضارة، ودولة إسلامية ذات مشروع نهضوي حضاري.
فارس القديمة: حضارة لا تموت
إنَّ تاريخ إيران لا يبدأ مع الثورة الإسلامية، بل يعود إلى آلاف السنين، حيث برزت كإحدى أعرق الحضارات الشرقية: من الأخمينيين إلى الساسانيين، إذ ساهم الإيرانيون في بناء الحضارة الإسلامية لاحقًا، وبرز منهم الفلاسفة والعلماء والشعراء الذين شكّلوا وجدان الأمة، مثل ابن سينا والفارابي وعمر الخيام.
إيران الشاه: حارس المصالح الغربية في الخليج
قبل عام 1979، كانت إيران الشاه تمثل رأس الحربة للمصالح الأميركية والبريطانية في الخليج؛ دعم بلا حدود، وصفقات سلاح، وتبعية سياسية شاملة، جعلت من طهران قاعدة متقدمة ضد طموحات التحرر في المنطقة، وخاصة في مواجهة المد القومي العربي آنذاك.
الثورة الإسلامية: حين نهض الإمام وقال لا للتبعية الاستعمارية
جاء الإمام روح الله الخميني بمشروع يتحدى النظام العالمي، ويعيد تعريف العلاقة بين الدين والسياسة. إنَّ الثورة الإسلامية لم تكن انقلابًا سياسيًا، بل ولادة لخطاب جديد، يتحدث عن “ولاية المستضعفين” و”رفض الطاغوت”، ويعلن العداء الصريح لأميركا؛ باعتبارها “الشيطان الأكبر”، ولإسرائيل؛ باعتبارها “غدة سرطانية” يجب استئصالها.
منذ البداية، تبنّى الإمام الخميني (رحمه الله) فلسطين كقضية مركزية، وفتح طهران أمام فصائل المقاومة، ودعا الأمة إلى جعل “الجمعة الأخيرة من رمضان” يومًا عالميًا للقدس.
حرب العراق: نزيف دم بتحريض أميركي–خليجي
لم تكن الحرب العراقية الإيرانية (1980–1988) إلا محاولة لإجهاض الثورة الإسلامية الوليدة، من حيث الدعم الهائل الذي قدمته واشنطن وبعض العواصم الخليجية لبغداد، بهدف استنزاف إيران وكسر إرادة قيادتها. لكن الحرب رسخت لدى الإيرانيين عقيدة “الصبر الاستراتيجي”، وأنتجت ثقافة مقاومة لا تعتمد على الحلفاء بقدر ما تعتمد على الذات.
من طهران إلى غزة وصعدة: ميلاد محور المقاومة
انطلقت إيران بعد الحرب نحو بناء تحالفات استراتيجية مع القوى الشعبية المناهضة للهيمنة الغربية، حيث تشكّل ما بات يُعرف بـ”محور المقاومة”، الذي يضم قوى في لبنان (حزب الله)، وفلسطين (حماس والجهاد)، واليمن (أنصار الله)، ليشكل هذا المحور كابحًا في وجه التفرد الإسرائيلي–الأميركي.
فمنذ انطلاقة الثورة الإسلامية، أدرك خصوم إيران أن خطرها لا يكمن فقط في طموحاتها الإقليمية، بل في خطابها الذي استعاد مركزية الإسلام في الحياة السياسية، وطرح مشروعًا بديلًا للهيمنة الغربية.
ولأن هذا المشروع يحمل في داخله بُعدًا وحدويًا إسلاميًا عابرًا للطوائف، سعى أعداء إيران -في واشنطن وتل أبيب وبعض العواصم الخليجية- إلى كسر قاعدته الشعبية، من خلال العزف على وتر الانقسام السُنّي–الشيعي، وتضخيم الهويات المذهبية على حساب الهوية الإسلامية الجامعة.
لقد رُوجت حملات دينية سلفية وإعلامية وسياسية لتصوير إيران كقوة “شيعية” تسعى للهيمنة الطائفية، في محاولة لشيطنة دورها بين الشعوب السُنيّة، لا سيما في الخليج وفلسطين وبلاد الشام واليمن.
لكن الواقع على الأرض كان يقول شيئًا آخر: فمعظم حلفاء إيران في المنطقة هم من السُنَّة المقاومين، من فصائل فلسطينية إلى قوى لبنانية وسورية، ما يُفنّد الاتهامات الطائفية، ويكشف أن المستهدف الحقيقي ليس مذهبًا دون آخر، بل أي مشروع نهضوي إسلامي يعيد توجيه البوصلة نحو فلسطين، ويهدد مصالح الاستعمار الجديد.
التكنولوجيا الإيرانية: تطور رغم الحصار
رغم العقوبات والحصار الغربي، نجحت إيران في تطوير صناعاتها الدفاعية، وباتت قوة صاروخية معتبرة. أما مشروعها النووي، فهو ما أثار القلق الغربي والإسرائيلي بشكل خاص. لكن ما يغيب عن الرواية الغربية، هو أن المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، السيد علي خامنئي، قد أصدر فتوى شرعية صريحة بتحريم إنتاج واستخدام السلاح النووي، مؤكدًا أن هذه الأسلحة محرّمة شرعًا ومرفوضة أخلاقيًا.
نتنياهو وفزاعة القنبلة الإيرانية
منذ أكثر من ثلاثة عقود، دأب بنيامين نتنياهو على التحذير من اقتراب إيران من إنتاج قنبلة نووية “خلال أسابيع”. ففي كلِّ دورة سياسية، كان يُشهر هذه الفزاعة في المحافل الدولية، ملوّحًا بالضربة الوقائية. لكن ما لم يتحقق خلال ثلاثين عامًا، بات يدفع الكثيرين للتساؤل: أين القنبلة التي تحدث عنها نتنياهو مرارًا؟ وهل يمكن لعقلية نووية أن تصدر عنها فتوى بتحريم السلاح النووي؟
إن هذا التناقض يفضح الطابع السياسي لتحريض نتنياهو، أكثر مما يكشف عن تهديد حقيقي، خاصة أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم تؤكد -حتى اليوم- أي انحراف إيراني نحو التصنيع العسكري.
الرئيس خاتمي: دعوة إلى حوار الثقافات
في عهد الرئيس محمد خاتمي (1997–2005)، برز وجه مختلف لإيران؛ وجه يسعى للتقارب والانفتاح الثقافي، حيث طرح خاتمي مشروع “حوار الثقافات” بوصفه بديلاً اخلاقيًا وإنسانيًا لـ”صراع الحضارات”، الذي نظّر له المفكر الأميركي صموئيل هانتنغتون.
جاء هذا الطرح الذي قدَّمه خاتمي ليؤكد أن العلاقة بين الشعوب لا ينبغي أن تُبنى على التصادم والتفوق، بل على التفاعل والتفاهم المشترك. مثّل ذلك الطرح، تحوّلًا مهمًا في الخطاب الإيراني، خصوصًا تجاه العالم العربي والغرب، لكنه لم يُغيّر من جوهر المشروع الاستراتيجي لإيران في مقاومة الهيمنة والتبعية الذيلية للغرب.
التحريض الإسرائيلي والتحشيد نحو ضربة عسكرية
رغم الإنكار الإيراني لأكاذيب نتنياهو وأدعاءاته بخصوص البرنامج الننوي الإيراني، إلا أن مجرم الحرب الإسرائيلي استمر في تحريضه، وقد تكثف ذلك بشكل غير مسبوق في العقد الأخير، خصوصًا بعد توقيع الاتفاق النووي في 2015، إذ عملت إسرائيل -عبر الضغط في واشنطن وتل أبيب- على إفشال الاتفاق، وتحريض الإدارة الأميركية على تبني سيناريو الضربة الاستباقية. إنَّ هدف نتنياهو؛ الكذاب الأشر، ليس فقط منع إيران من التخصيب، بل إنهاء نفوذها الإقليمي وتقويض نظامها السياسي.
الرد الإيراني: رسائل نارية وتحالفات ميدانية
لم تكتف إيران بالكلام، بل ردّت عبر دعم حلفائها في غزة ولبنان وسوريا الاسد واليمن، وأرسلت رسائل صاروخية مباشرة -كما حصل في أبريل 2024- حين قصفت مواقع داخل إسرائيل ردًا على استهداف دبلوماسييها في دمشق. هذه الضربة كانت الأولى من نوعها، وأكدت أن طهران لن تبقى رهينة قواعد الاشتباك القديمة.
هل تتورط أميركا؟
يبقى السؤال الأخطر: هل تتورط الولايات المتحدة في حرب مباشرة ضد إيران؟ السيناريو مرعب، ويشمل:
١. استهداف القواعد الأميركية في الخليج.
٢. تهديد الملاحة في مضيق هرمز.
٣. تصعيد إقليمي على أكثر من جبهة.
٤. انهيار الاقتصاد العالمي إذا ما ارتفعت أسعار النفط.
خاتمة: إيران… دولة لا تُختزل بشعار
ليست إيران دولة ملائكية، لكنها أيضًا ليست ما تصفه به دعاية الأعداء.. إنها كيان حضاري، صاحب مشروع سياسي وفكري مستقل. تخطئ وتصيب، ولكنها تقف -حتى اليوم-على ضفة مختلفة من ضفاف الخليج، تواجه مشروع الهيمنة، وتدفع أثمانًا باهظة من أجل الحفاظ على استقلالها وقرارها السيادي.
إنَّ من أراد أن يفهم إيران، فعليه حقيقة أن يقرأ تاريخها، ويتأمل خطابها، ويتفكر في حجم الضغوط التي تتعرض لها، لا أن يكتفي بصورة مبتورة ترسمها أبواق التحريض في واشنطن وتل أبيب.
وقديما قالوا لمزاعم مشابهة لتهديدات نتنياهو وترامب:
ابشر بطولِ سلامةٍ يا مربعُ!! والأيام في قادمها هي لسان الشهادة والشهيد.