كثرت النظريات خلال الأشهر الماضية حول أسباب تمكّن إسرائيل من اغتيال أكثر من 300 عنصر من “حزب الله”، 23 منهم يُعتبرون من كبار القادة العسكريين في الحزب. فأغلبية عمليات التصفية نفّذتها طائرات مسيّرة إسرائيلية، مستخدمة صواريخ دقيقة جداً. كما استخدمت إسرائيل مقاتلاتها الحربية في استهداف مقاتلي “حزب الله” في منازل تواجدوا فيها – بعضها كانت منازل المقاتلين أنفسهم. وأحدث هذا الأمر بلبلة في صفوف الحزب وداخل بيئته، حيث تصاعد الحديث عن جواسيس وعملاء ومندسين يقومون بتسريب المعلومات للإسرائيليين. كما أن أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصر الله تناول هذا الموضوع في أكثر من مناسبة، متّهماً الهواتف النقّالة بأنها هي العميل والأداة التي مكّنت الإسرائيلي من استهداف هؤلاء المقاتلين بهذه الدقة.
تحدث تقرير أخير لوكالة “رويترز” عن تخلّي “حزب الله” عن استخدام وسائل الاتصال اللاسلكية والالكترونية، والعودة إلى وسائل اتصال قديمة، بخاصة السلكية منها. وخرج الخبراء بنظريات عدة حول الوسائل التي استخدمتها إسرائيل لتحديد أماكن الشخصيات المستهدفة. أكثر نظرية أجمع عليها الخبراء هي رصد إسرائيل الهواتف النقّالة لرصد تحرّكاتهم وتتبعهم عبر المسيّرات، واستخدام الذبذبات الإلكترونية الصادرة من الهواتف في توجيه الصواريخ لتصفية حامليها.
وسيلة الرصد والاغتيال هذه ليست جديدة، استخدمها الأميركيون والروس في عمليات اغتيال عديدة في حروبهم السابقة. كما تُستخدم تكنولوجيا التعرف على البصمة الصوتية عند التنصت على الهواتف أو الاتصالات اللاسلكية، لتحديد هوية المتحدث تمهيداً لتصفيته إن كان مطلوباً.
وتحدث بعض المحلّلين أيضاً عن نظرية وجود عملاء داخل الحزب أو مخبرين في مناطق عمليات الحزب، يزودون الإسرائيليين بالمعلومات بشكل آني عن أماكن تواجد عناصر الحزب وقادته لاستهدافهم حينها. وهذه نظرية ممكنة، ولا يمكن استبعادها، على الرغم من نفي الحزب وجود عملاء داخله. وهناك نظرية اختراق إسرائيل منظومات كاميرات المراقبة في الشوارع ومداخل المصارف ومنشآت أخرى، تمكّنها من رصد تحركات عناصر الحزب في هذه البلدات أو القرى. وتفيد تقارير صحفية أن الحزب عطّل كاميرات المراقبة في البلدات الحدودية، حيث تنشط العمليات العسكرية.
قد تستخدم إسرائيل كاميرات مزودة بعدسات زووم قوية مثبتة على متن مسيّراتها لكشف وجوه الأشخاص وتحديد هويتهم عبر تكنولوجيا التعرف على الوجه. فهذه التكنولوجيا شهدت تقدّماً كبيراً في السنوات الأخيرة، خصوصاً في الولايات المتحدة، حيث بات هناك برامج إلكترونية تستطيع التعرف على وجه شخص مطلوب بسرعة ودقّة كبيرتين، بمجرد أن يتمّ أخذ صورة واضحة له من كاميرا مزودة بعدسات تستطيع أن تظهر المنطقة بين أسفل الأنف والعينين والجبين. وتحدثت تقارير غربية عن وجود هذه التكنولوجيا اليوم على الأقمار الاصطناعية، الأمر الذي أثار اعتراض جمعيات تدافع عن خصوصية الأفراد، وتعتبر وجود هكذا قدرة تمكّن الدولة من تحديد تحركاتهم بانتهاك للخصوصية، ما يتعارض مع بعض قوانين الحرّية الشخصية في الغرب. وفي حال كانت إسرائيل تستخدم تكنولوجيا التعرف على الوجه عبر مسيّراتها أو حتى أقمارها الاصطناعية، فهي ستتمكن من التعرف على عناصر الحزب المستهدفين فور خروجهم إلى أماكن مفتوحة في مناطق العمليات ومن ثم تتبعهم تمهيداً لاغتيالهم.
جميع النظريات أعلاه واردة وممكنة من الناحيتين العلمية والمنطقية. الّا أن إسرائيل لن تستطيع تطبيق أي منها إن لم تكن تملك معلومات مسبقة عن العناصر المستهدفة. فالمنطق يقول إنه حتى تتمكن إسرائيل من استخدام الهواتف النقالة أو تكنولوجيا التعرف على الوجه، فهي بحاجة لبيانات أعضاء “حزب الله” وقياداته بشكل كامل: أي أنها بحاجة لاسم المقاتل ومركزه ودوره في الحزب، إضافة إلى عنوان سكنه ورقم هاتفه وصورته الشخصية. فهي لا تستطيع رصد الهواتف كافة لتعرف أيها لهذا الشخص أو ذاك. كما أنها لا تستطيع التعرف على شخص لا تملك صورة له، ولا تستطيع أن تطلب من مخبرين التجسس على شخص من دون أن تزودهم بمعلومات عن شكله ومكان سكنه. وبالتالي، منطقي الاستنتاج أن هناك اختراقاً إسرائيلياً كبيراً حدث قبل هذه الحرب، مكّنها من الحصول على بيانات مقاتلي الحزب كافة والتعرف على هيكليته القيادية والعملياتية.
لكن كيف تمكنت إسرائيل من الحصول على بنك البيانات هذا؟ هناك ثلاثة احتمالات: الأول، الاختراق الإلكتروني لحاسوب عليه بيانات مقاتلي الحزب كافة؛ الثاني، عملية كوماندوس إسرائيلي على منشأة لـ”حزب الله” تحتوي على بيانات المقاتلين وسرقتها، كما حدث في إيران عندما سرق الكوماندوس الإسرائيلي بيانات خاصة بالبرنامج النووي الايراني قبل سنوات؛ والثالث، إقدام أحد عناصر الحزب ممن يستطيعون الوصول إلى هذه البيانات، على تمريرها للإسرائيليين بعد الفرار خارج البلاد.
كل من دخل مكاتب “حزب الله” يدرك حجم الإدراك الأمني لعناصر الحزب وقادته، ومعرفتهم بالوسائل التي يمكن أن يستخدمها الإسرائيلي للتجسس عليهم. فجميع أجهزة الحاسوب الخاصة بالحزب والتي عليها معلومات حساسة، غير موصولة بالإنترنت بتاتاً منعاً لأي اختراق إلكتروني، وبالتالي، مستبعد أن تكون بيانات الحزب موجودة على حاسوب موصول بالإنترنت. هذا يُسقط الاحتمال الأول. كما أن عناصر الحزب لا تسمح لأي شخص غريب أن يُدخل معه أي أجهزة الكترونية وكاميرات إلى المكاتب الخاصة أو المنشآت الحساسة، ويجري تفتيش الجميع بشكل تام. أما بالنسبة إلى احتمال عملية الكوماندوس لسرقة البيانات، فهو ضعيف جداً، نظراً لصعوبة تنفيذ ذلك في مناطق الحزب التي تشهد اكتظاظاً سكانياً وإجراءات أمنية مشدّدة.
يبقى الاحتمال الثالث، وهو فرار أحد مسؤولي الحزب ببنك البيانات وتسليمه لإسرائيل، وهو الأكثر ترجيحاً. لا تقارير وافية عن هكذا حادثة على الرغم من وجود بعض الإشاعات. هذا أمر ستكشفه الأيام أو الأشهر المقبلة. لا منظمة أو جيش أو حكومة في العالم لم تشهد حالات خيانة، وهو أمر وارد في كل زمان ومكان. ولـ”حزب الله” جهاز أمن وقائي عمله كشف الجواسيس والخونة داخل صفوفه وتحييدهم، ويملك إنجازات في هذا الإطار. إنما من الواضح أنّ هناك خرقاً إسرائيلياً لبيانات أعضاء الحزب مكّنها من اغتيال هذا العدد الكبير من القيادات الميدانية الرفيعة، التي لم يسمع معظم الشعب اللبناني بأسمائهم، ويدرك مكانة كل منهم، قبل أن تطالهم الصواريخ الإسرائيلية. فمن أهم مميزات قيادات الحزب هو التكتم الشديد، بشكل حتى أن جيرانهم لا يعلمون مراكزهم في الحزب وحجم دورهم فيه.
ولا بدّ أن تقلّل إجراءات الحزب الأخيرة، مثل تغيير وسائل الاتصال وتغيير القادة لأماكن سكنهم ومبيتهم وحتى وسائل التنقل وكسر الروتين، وهذا كله يقلّل من النجاحات الإسرائيلية في اغتيال القيادات الميدانية. تبقى هناك مسألة السيطرة الجوية التي تمكّن المسيّرات الإسرائيلية من رصد تحركات مقاتلي الحزب في الخطوط الأمامية واستهدافهم أحياناً عند تنقّلهم مشياً أو على الدراجات النارية. كما أن إمكانية استخدام إسرائيل تكنولوجيا التعرف على الوجه قد تدفع مقاتلي الحزب إلى استخدام الأقنعة لإخفاء هوياتهم.
أما مشكلة “حزب الله” على الساحة السورية فهي أكثر تعقيداً منها في لبنان، نظراً لتواجده ضمن ساحة عمليات لقوى أخرى يعتبرها حليفة، إنما قد تكون مخترقة، ما يسهّل على الطائرات الإسرائيلية اعتراض وتدمير قوافل أسلحة وتدمير مخازن ومصانع أسلحة واغتيال بعض قادة الحرس الثوري الإيراني. وهذه الغارات تحدث منذ قترة زمنية طويلة، ما يدل إلى الصعوبة التي يواجهها الحزب في وقف الاختراقات الاستخباراتية هناك.