الاغتراب: من الجذور الفلسفية إلى أزمة الإنسان المعاصر:

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

الاغتراب ليس مجرد مفهوم نظري يُطرح في الأروقة الأكاديمية، بل هو تجربة إنسانية عميقة تُعبّر عن تمزّق الذات في مواجهة واقع متحوّل ومضطرب. إنّه يعكس الحالة السيكو–اجتماعية التي يجد فيها الإنسان نفسه غريباً عن محيطه، عن ذاته، عن الآخرين، بل وحتى عن القيم التي نشأ في كنفها. وقد أصبح مفهوم الاغتراب موضوعاً مركزياً في الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس، بل وحتى في الأدب والفن المعاصر، لما يحمله من قدرة على تفسير الانفصال الداخلي الذي تعانيه الذات البشرية في عالم متسارع، معقّد، يزداد فيه الشعور باللاجدوى واللاانتماء.

_ الجذور الفلسفية للاغتراب: من هيجل إلى ماركس.
تعود بذور مفهوم الاغتراب إلى الفلسفة المثالية الألمانية، ولا سيّما عند هيجل، الذي اعتبر الاغتراب شرطاً ضرورياً لتحقيق تطور الوعي. إذ يرى أن الروح لا تتصالح مع ذاتها إلا بعد أن تنفصل عنها وتغترب، لتعود وتستوعب هذا الانفصال في حركة جدلية تقود إلى تحقق الذات. فالاغتراب عند هيجل ليس سلبياً، بل ضرورة في سيرورة الوعي التاريخي.
غير أن كارل ماركس أعاد توجيه المفهوم إلى بعده المادي والاجتماعي، معتبراً الاغتراب ظاهرة ناتجة عن شروط الإنتاج الرأسمالية. فالعامل في النظام الرأسمالي يُغترب عن نتاج عمله، وعن العملية الإنتاجية، وعن جوهره الإنساني. يقول ماركس: “كلما زاد العالم الخارجي للأشياء التي يخلقها العامل، قلَّ العالم الداخلي الذي يمتلكه العامل نفسه.” وهكذا يصبح الإنسان مجرد ترس في آلة، فاقد السيطرة على ذاته وعلى العالم من حوله.

_ التحليل السيكولوجي والاجتماعي للاغتراب.
يوسّع إريك فروم المفهوم في كتابه المجتمع السليم، حيث يصف الاغتراب بأنه حالة شعورية تفصل الإنسان عن ذاته وقدراته، وتجعله يشعر بأن القوى المسيطرة على حياته لا تنتمي إليه ولا يستطيع التحكم بها. ويرى فروم أن هذا الشعور يتفاقم في المجتمعات الصناعية الحديثة، حيث تحكم السوق والعلاقات الاقتصادية مختلف مناحي الحياة.
أما من منظور علم الاجتماع، فقد حاول ميلفن سيمن (Melvin Seeman) تصنيف أنماط الاغتراب إلى خمسة أنماط أساسية:
1. الاغتراب عن القوة: شعور الفرد بعدم القدرة على التأثير في مجتمعه أو تقرير مصيره.
_ 2. الاغتراب عن الهدف: انعدام الغاية أو الجدوى من الفعل الإنساني.

_ 3. الاغتراب عن المعايير: الاضطرار إلى التصرف بخلاف القيم السائدة لتحقيق الأهداف.

_ 4. الاغتراب عن الذات: الشعور بأن الأفعال التي يقوم بها لا تعبّر عن الذات الحقيقية.
_ 5. الانعزال الاجتماعي: الإحساس بالغربة عن الجماعة والمجتمع.
هذا التصنيف يقدّم رؤية تحليلية يمكن تطبيقها في البحوث التجريبية والاجتماعية، وهو ما سعى إليه باحثون مثل دي. دين ونتيلر في مقالاتهم المنشورة في المجلة الأمريكية لعلم الاجتماع، إذ بذلوا جهوداً لإيجاد أدوات كمية تقيس الاغتراب وتفككه.

_ الاغتراب في ظل التحولات المجتمعية.
يرى المفكر ر. نِسْبِت (R. Nisbet) أن التحول من المجتمعات التقليدية إلى المجتمعات الحديثة أدى إلى تفكك البنى المجتمعية التي كانت توفّر للفرد شعوراً بالانتماء. ففي المجتمعات التقليدية، كانت الروابط العائلية والدينية والمجتمعات المحلية تشكّل شبكة حماية نفسية واجتماعية. أما في المجتمعات الحديثة، فقد أدت الفردانية والعلاقات الرسمية إلى عزلة متزايدة للفرد.
ويؤيد هذا الطرح عالم الاجتماع كورن هوسر (Kornhauser) الذي يرى أن اضمحلال الجماعات شبه المستقلة مثل الجمعيات المحلية أو النقابات أدّى إلى تفكك الهويات الجمعية، ما عزّز من شعور الأفراد بالاغتراب. كما يذهب بعض الباحثين إلى أن الاغتراب يتفاقم أكثر داخل المنظمات البيروقراطية والمؤسسات الرسمية، حيث يُعامل الإنسان كرقم في منظومة، دون أي اعتبار لإنسانيته أو فرديته.

_ الاغتراب والوعي الحديث: أزمة الإنسان المعاصر.
تتقاطع تحليلات المفكرين جميعها عند نتيجة واحدة: أن الإنسان المعاصر يعيش أزمة هوية، تتمثل في انقطاعه عن مصادر المعنى. فالاقتصاد الحديث لا يمنحه الرضى، والمؤسسات لا تتيح له الفعل، والتكنولوجيا – رغم ما توفره من تواصل – تزيد من عزلته. وهنا يشير هربرت ماركوز، أحد أعلام مدرسة فرانكفورت، إلى أن الإنسان الحديث مغترب لأنه يعيش في عالم استهلاكي يوهمه بالحرية، بينما هو في الحقيقة خاضع لإيديولوجيا تسلّعه وتسلبه جوهره.
كما أن الأدب والفن في العصر الحديث باتا يعبّران عن هذه الأزمة الوجودية، من خلال شخصيات مغتربة، معزولة، غير قادرة على التواصل أو التفاعل مع عالم فقد المعنى. يقول ألبير كامو: “العالم ليس معقولاً، لكن الإنسان لا يستطيع إلا أن يبحث عن المعنى.”
خاتمة: نحو فهم شمولي للاغتراب

إن الاغتراب ليس مجرد مفهوم جامد، بل هو مرآة تعكس تمزق الإنسان في مواجهة الحداثة وتناقضاتها. من ماركس الذي كشف عن بعده الطبقي، إلى فروم الذي سلط الضوء على بعده النفسي، إلى علماء الاجتماع الذين حللوه كبنية في السياق المؤسسي—كلهم اتفقوا على أن الاغتراب مرض حضاري لا يمكن فهمه إلا بتفكيك البنى الاجتماعية والسياسية والنفسية التي تنتجه.
ولعل التحدي الأكبر الذي يواجه الفكر المعاصر اليوم هو كيفية تحويل هذا الوعي بالاغتراب إلى وعي نقدي يُنتج تغييراً حقيقياً في الذات والمجتمع، حتى لا يبقى الإنسان غريباً في العالم الذي صنعه بيديه.