تتواتر مقدمات وشواهد أننا نقترب من عمليات عسكرية إسرائيلية واسعة على الجبهة اللبنانية قد تنزلق بالتداعيات إلى حرب إقليمية مدمرة.
لم يعد ذلك السيناريو مستبعداً، أو خطراً مفترضاً تحاول أطراف دولية وإقليمية عديدة تحاشيه، بل إنه خطر ماثل رغم تعقيدات حساباته وفواتيره الباهظة.
كان الهجوم السيبراني، الذي استهدف يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين أجهزة اتصال «حزب الله» وأسقط عشرات القتلى وآلاف المصابين، إشارة بالغة الخطورة على ما قد يحدث تالياً، بأجوائه وسياقه بدا كما لو كان تمهيداً لبدء العمليات العسكرية في أجواء فوضى وارتباك، لكن ذلك لم يحدث بوقته ولحظته.
لماذا لم تقتنص القوات الإسرائيلية تلك الفرصة السانحة؟
بالحساب السياسي، قررت الحكومة الإسرائيلية، الأكثر يمينية وتطرفاً، توسيع نطاق الحرب ونقل مركز الثقل العسكري والاستخباراتي من غزة إلى الشمال حيث الحدود الملتهبة مع لبنان.
حسب التقديرات الإسرائيلية فإن أي انسحاب من أي منطقة في غزة تعني على الفور تقدم «حماس» لملء الفراغ، لذلك فإن الموقف الإسرائيلي مأزوم بفداحة، فهو لا بوسعه حسم حرب غزة، رغم جرائم الحرب والإبادة الجماعية والتجويع المنهجي ضد سكانها، ولا هو متاح تأمين شريط حدودي داخل الجنوب اللبناني يؤمّن عودة المستوطنين إلى الشمال.
كيف يعودون إذن؟
فكرة الشريط الحدودي نفسها شبه مستحيلة موضوعياً، إنها تعني أولاً، مواجهات برية شرسة لا تقدر على تحمل تكاليفها وأعبائها قواتها المنهكة، التي لا ترى أمامها أفقاً لحل، كما تعني ثانياً، إنتاج الفشل نفسه الذي عانته إسرائيل عندما أنشأت برعايتها تدريباً وتمويلاً عام 1976 في سنوات الحرب الأهلية ما أطلق عليه «جيش لبنان الحر» بقيادة سعد حداد وأنطوان لحد من بعده.
في حرب 2006 تلقت إسرائيل هزيمة أكبر وأفدح وتحرر الجنوب مرة ثانية، المثير للانتباه أن فكرة الشريط العازل جرى طرحها من جانب بنيامين نتانياهو لليوم التالي في غزة، لكن الإدارة الأمريكية لم تكن مستعدة أن توافق على فكرة محكوم عليها بالفشل المسبق.
المفارقة الكبرى أنه بعد نحو عام من الحرب على غزة لم يحقق نتنياهو أياً من أهدافه الأساسية، فإذا به يضيف هدفاً جديداً يصعب تحقيقه هو الآخر، فقد حاول القفز فوق حقائق غزة، وعدم رغبته في التوصل إلى صفقة تنهيها، وتنهي بالوقت نفسه الاشتباكات الحدودية في الشمال والمواجهات التي لا تتوقف في البحر الأحمر.
بالموازين العسكرية يمتلك «حزب الله» مخزوناً ضخماً من الصواريخ البالستية لن تفلت من ضرباتها أية بقعة في إسرائيل، التي سوف تتضرر بصورة غير معتادة بحروبها السابقة قد تفضي إلى ارتفاع قياسي في نسب الهجرة العكسية خارجها.
إسرائيل ليست مهيأة لحرب جديدة، فهي منقسمة داخلياً ومنهكة عسكرياً واقتصادياً ومهزومة استراتيجياً وأخلاقياً، لكنها تغامر من أجل مصالح سياسية لنتنياهو وحليفيه المتطرفين إيتمار بن غفير ويتسلئيل سموتريتش.
في الهروب إلى الشمال أعطيت التعليمات للمستوى العسكري بالتأهب لفتح جبهة جديدة، قبل أن يعلن رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هليفي أنه قد صدق فعلاً على خطة العمليات.
أعلن بنيامين نتنياهو بنفسه، أن عودة المستوطنين إلى بيوتهم في الشمال هدف جديد للحرب يضاف إلى تقويض حركة «حماس» واستعادة الرهائن بقوة السلاح دون عقد صفقات، ومنع عودتها إلى حكم القطاع مرة أخرى، مع ذلك كله فالحرب ليست خياراً سهلاً، أو متاحاً دون كُلَف أوعواقب.
رغم النجاح الظاهر للضربة الاستخباراتية، إلا أن حدوده لا تمس جوهر الاستراتيجيات وقدرة الطرف الآخر في الصراع على استيعابها وتصحيح أوجه الخلل، التي سمحت بالخرق الأمني الفادح.
حسب إشارات متواترة فإن «حزب الله» تنبّه إلى خلل ما في أجهزة اتصالاته، وكاد أن يصل إلى الحقيقة ويعطل مفعول عمل استخباراتي طويل ومعقد استغرق شهوراً، فصدر قرار تفجير أجهزة «البيجر» دون أن يكون الجيش مستعداً لبدء العمليات قبل أن يفجر باليوم التالي أجهزة ال«ووكي توكي أيكوم» ويسقط ضحايا آخرون. بصورة صريحة هذه المرة حاول نتانياهو التخفف من عبء إعادة الرهائن بصفقة لصالح فكرة أخرى يصعب تحقيقها بذريعة إعادة أكثر من 700 ألف مستوطن بأمان إلى منازلهم، التي أُخليت بأثر الاشتباكات الحدودية المتصلة بعد السابع من أكتوبر 2023.
بالحسابات الأمريكية المعلنة فإنها تمانع في تلك الحرب خشية تداعياتها السلبية للغاية على استراتيجياتها ومصالحها بالشرق الأوسط، لكنها عالقة في انتخاباتها الرئاسية لا تعرف أين تقف؟، ولا ماذا تفعل؟. تتبنّى الإدارة الأمريكية بوقت واحد موقفين متضادين، أحدهما، يعلن الوقوف مع إسرائيل وحقها المطلق في الدفاع عن أمنها، وهو يمهد لتورط لا تريده في حرب تضر بمصالحها، وثانيهما، التحذير من مغبة الدخول في حرب مفتوحة جديدة على الجبهة اللبنانية قد تفضي إلى حرب إقليمية واسعة، لكنها لا تفعل شيئاً له تأثيره على حركة الحوادث.
رغم الضعف البادي على مواقف واشنطن، إلا أن إسرائيل لا تقدر على دخول حرب جديدة دون غطاء أمريكي كامل استراتيجياً وعسكرياً.
تدرك إدارة الرئيس جو بايدن أن نتنياهو يحاول أن يشتري وقتاً حتى يصل حليفه دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بعد الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل، لكنها لا تبدو في وضع من يقدر على التورط في حرب إقليمية مدمرة.
السيناريوهات كلها مفتوحة على الأخطار المحدقة.
عن الخليج الاماراتية