يتنافس آلاف المرشحين على (329 مقعداً برلمانياً)، ومئات الأحزاب والكيانات، والتباري بآلاف الإعلانات، إن لم تكن بعشرات الآلاف، نُقشت بأحلام وآمال، هذا سيوفر السكن، وذاك سيوفر الماء للبساتين التي جُرفت وتحولت إلى عمارات سكنية، ومن أعلن فتح المدارس، وإعمار المتهالك منها، والأقل تحدّث عن ضبط الفساد، وجعل السّلاح بيد الدَّولة فقط، وكل محافظة ستكون فيحاء العراق، ولم تخلُ الدعاية الانتخابيَّة، مِن تشويقات طائفيَّة، فالتباري جارٍ في كل ما يجذب النّاخبين، حتَّى على المناصب السيادية الأولى، لأي طائفة أو قوميَّة ستكون؟
وطرحت حتى أسماء الدَّول التي ستكون لها حصص في النفوذ، مِن قِبل هذا النائب أو ذاك، أو الأحزاب والكيانات، فبعض الدول لها جمهورها النّاخب، فالدِّعاية تهمُّها، دون أن يُنسى العراق وحقوقه مَن قبل أحزاب وطنيّة، على أنها كيانات وشخصيات عراقيَّة خالصة، نساءً ورجالاً. تقدّم المترشحون بأسماء طوائفهم وقومياتهم، ومنهم مَن ميّز نفسه بحزبه أو تحالفه، ومِن التحالفات تقودها نساء، لهنَّ تجارب حزبيَّة وانتخابيَّة سابقة، كانت حاميَّة حتى استخدمت فيها العبوات اللاصقة، التي ظهر قبل سنوات ثم عادت.
في هذا المارثوان تحضر كناية: «مليوصة يا حسين الصَّافي»، كناية عراقية عاميَّة، وليس للمفردة «مليوصة» جذر عربي سوى الفعل «ملص»، وهي معروفة بين العراقيين، ويغلب على الظَّن لأنَّ إطلاق الكناية متعلقة بالحكم آنذاك، لم يأت بها المحقق والمحامي عبود الشالجي (ت: 1996) في موسوعته «الكنايات العاميَّة البغدادية»، التي صدرت (1983)، فلكلُّ كنايةٍ أو مثلٍ قصته ومناسبته، وقد أدخل في الثلاثة مجلدات طنايا عراقيَّة عامة. لم أكن متأكداً من أصل الكناية «مليوصة يا حسين الصافي»، ومناسبتها إلا بعد قراءة كتاب عبد الحسين الرفيعي «النجف الأشرف ذكريات ورؤى وانطباعات ومشاهد» (دار الحكمة 2009)، وهي (هوسة) لأحد الحاضرين بعد انفضاض حفل بمناسبة الإعلان عن الوحدة الثلاثية (1963): مصر والعراق وسوريا، التي ما أُعلنت إلا وتفرقت، وإثرها استبدل العلم العراقي لتشير نجومه الثلاث إلى الدولة الثلاثية.
وقصتها حسب أحد رعاة الحفل في (17 نيسان 1963)، يوم إعلان الوحدة: «تم تحشيد الناس من داخل النجف وخارجها، وجاء المتصرف أو المحافظ حسين الصَّافي، ومعه جماهير غفيرة من الفلاحين من لواء الديوانية، ملأت ميدان الاحتفال، ومن دون إدراك خطأ فني بالغ، لا يتناسب وهذه الجموع الغفيرة، التي جاءت لتهوس وتهتف، ووجدت المكان قد صف بالكراسي، مما يُعيق حركتها، ومتطلبات هذه الحركة، في الوقوف والجلوس على الأرض.
وكان الحضور الرسمي يتمثل بمسؤولين مدنيين وعسكريين كبار قادمين مِن العاصمة. «وخلال الحفل حدث ماسٌ كهربائي، أعقبه هروب من ذلك المكان، مما جعل الكراسي وهي تصطدم ببعضها وبالناس، تحدث أصواتاً أقرب إلى صوت رمي بالسلاح، الأمر الذي زاد من هلع الناس، وفرارهم جميعاً، على الرغم من كل دعوات التهدئة، التي صدرت من المسؤولين، أمام الهرج والمرج، الذي دفع الناس إلى المنصة الخشبية، وهم يهتفون ويرقصون عليها، مما أدى إلى انهيارها، وقتل طفل مغدور لجأ للاختباء تحتها. وفرغ الميدان وبقينا نحن القلة، وحدنا أمام منظر مضحك، بعد ذلك الحماس… أما بعد ما حصل فقد تدافع الناس هلعاً وخوفاً، وانقلبت الموازين، وصارت الهوسة على لسان الجميع: مليوصة يا حسين الصافي، وذهبت مَثَلاً» (النجف الأشرف.. ذكريات ورؤى وانطباعات)!
فمَن يرى التسابق على الفضائيات، وحشد الشَّوارع بلافتات الدعاية الانتخابيّة، ووجوه جديدة، مِن الأقارب الوارثين، في كيانات قديمة، شاركت في أول انتخابات، وهذه هي السَّادسة، وإعلانها حفظ المال العام، وإعادة بناء العراق، ومِن شدة استعطاف الجمهور، بالهدايا والآمال، حضرتنا الكناية «مليوصة يا حسين الصَّافيّ»، يُكنى بها عن الكثرة والفوضى. عسى يا حُسين الصَّافيّ، الجميع صادقون، وليس كما قال ابن المعتز(قُتل: 296ه): «آتانا بها صفراء يَزعمُ أنَّها/لتبرً فصدقناه وهو كذوبُ»(الدِّيوان).
* نقلا عن ” الاتحاد”








