الانتخابات بين طقس الشرعية الشكلية ومسرح العبث السلطوي:

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

منذ نشأة الأنظمة السلطوية، ظلّت الانتخابات أداةً مفضّلة في يدها لإضفاء مظهرٍ من “الشرعية الديمقراطية” على بنيتها الاستبدادية. فالحاكم المستبدّ يعلم أنّ بقاءه مرهون بقدرته على إيهام الداخل والخارج بأنّ سلطته محاطة برضا شعبي، حتى وإن كان هذا الرضا مزيّفًا يُستخرج من صناديق اقتراع مُعلّبة. وهكذا تُصبح الانتخابات في ظلّ الأنظمة القمعية أشبه بمسرحية عبثية، تُدار بإخراجٍ محكم، لكنّ جمهورها يعرف مسبقًا أنّ النتائج محسومة لصالح الحاكم أو حزبه، غالبًا بنسبة “مقدّسة” تبلغ 99.99%.
لقد أوضح ميكيافيللي في كتابه الأمير أنّ الحاكم لا يملك أن يبني سلطته على المحبة، لأنّها هشة ومتقلّبة، بل على الخوف الذي يضمن الطاعة. وهذا ما تفعله الأنظمة الشمولية حين تحوّل صناديق الاقتراع إلى أدوات تهديد: التصويت لغير مرشّح النظام يُعدّ عصيانًا، يقابَل بالقمع والتشهير وربما السجن. وبذلك تنقلب الانتخابات من وسيلة للتداول إلى آلية للضبط والسيطرة.
إنّ شراء الولاءات وتقاسم الغنائم السياسية والاجتماعية مع الموالين هو جزء من هذا المسرح. فالمقاعد البرلمانية كثيرًا ما تتحوّل إلى إرثٍ عائلي أو طائفي، يمنح السلطة مظهر “التعددية” بينما يُبقي القرار السياسي حكرًا عليها. على هذا النحو، يتم تدجين المعارضة وإفراغها من مضمونها، حتى تُصبح أشبه بديكورٍ برلماني لا أكثر.
يصف شوبنهاور العالم بأنّه محكوم بـ”الإرادة العمياء” لا بالعقلانية، وهذه العبارة تُجسّد تمامًا طبيعة الأنظمة السلطوية التي تدير مشهدها السياسي بلا منطق حقيقي سوى إرادة البقاء. وفي هذا السياق، تبدو الانتخابات محاولة لتطبيع الفوضى السياسية وإلباسها ثوبًا قانونيًا.
أما ألبير كامو، فقد رأى أنّ العبث يكمن في الهوة بين توق الإنسان للمعنى وصمت العالم. ويمكن أن نطبّق رؤيته على “انتخابات الاستبداد”؛ إذ يبحث المواطن عن صوتٍ ومعنى في صندوقٍ فارغ، ليكتشف أنّه جزء من مشهد لا يعترف بوجوده إلّا كرقم يزيّن شرعية السلطة.
ولعلّ أرسطو حين تحدّث عن التفكير الفلسفي باعتباره “كمال الحياة الإنسانية” كان يضع أساسًا مضادًا لهذه العبثية؛ فحيثما يُغيب التفكير الحرّ والنقاش العمومي، تؤول السياسة إلى مسرحٍ مزيّف تحكمه الأوهام.
لقد أتقنت الأنظمة السلطوية لعبة “التوازن” بين البطش والمسرحة: فهي تمنح هامشًا ضئيلًا من الحرية الشكلية كي لا تُتهم بالانغلاق، وتُظهر ملامح الرحمة لتخفي قسوتها، لكنها في الجوهر تُحكم قبضتها على مفاصل الدولة والمجتمع. وهنا تتجلّى نصيحة ميكيافيللي الشهيرة: الحاكم الذكي لا يثق ثقةً كاملة بأحد، ويستعين بالخوف أداةً لضمان الولاء.
إنّ حضور المراقبين الدوليين لا يُغيّر من جوهر اللعبة شيئًا، بل يمنحها شهادة شكلية تُسهّل على النظام المستبدّ عقد الصفقات مع المستثمرين وتجنّب العقوبات. فالانتخابات تصبح وسيلة لإطالة أمد الاستبداد، لا لخلق فضاء تداول ديمقراطي حقيقي.

هكذا، تغدو الانتخابات في ظلّ الاستبداد قناعًا للهيمنة، وآليةً لإعادة إنتاج الطغيان، ووسيلةً لتمديد صلاحية سلطةٍ لا تعترف إلّا بحقّها في العنف المشروع. وفي غياب آليات المحاسبة وتداول السلطة، لا يبقى للشعوب سوى أن تتفرّج على هذا “المسرح العبثي” الذي يُعاد إخراجه كل بضع سنوات، بينما تظلّ الديمقراطية الحقيقية غائبة خلف الكواليس.