لم يُلاقِ اختيار محمد البشير (41 عاماً)، رئيسا لحكومة سورية “انتقالية” ترحيبا من شخصيات سورية بارزة عُرفت بمعارضتها لنظام آل الأسد، ويتمحور الاعتراض حول أن البشير من المقرّبين من قائد العمليات العسكرية والحاكم الحالي لسورية أحمد الشرع، وقد كان بالفعل رئيسا لـ”حكومة الإنقاذ” المنبثقة عن هيئة تحرير الشام، وكان نطاق عمل هذه المجموعة المناطق المحرّرة في شمال سورية. وقد تنازعت تلك الحكومة الشرعية مع “الحكومة المؤقتة” المنبثقة عن الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية.
في واقع الحال، ونظرا إلى ظروف تشكيلها ومصدر تكليفها، فإن حكومة البشير هي بمنزلة هيئة حكومية، مهمّتها تأمين ظروف مناسبة لعودة الحياة الطبيعية، وضبط الوضع الأمني ومعالجة ما هو عاجل من تحدّيات الحياة اليومية، ومن المبالغة وصفها بحكومة انتقالية، ويدلّل على ذلك أن النطاق الزمني لمهامّها لا يتجاوز ثلاثة شهور، وهي مولجة بملء مؤقتٍ للفراغ الحكومي وتيسير حياة الناس وتأمين الخدمات الأساسية وفق الإمكانات المتاحة. وكان من اللافت أنه جرى الإعلان عن رئيس الحكومة من غير الإعلان عن التشكيلة الوزارية، ما يشي بالطابع التقني لهذه الحكومة التي ضمّت وزراء من حكومة الإنقاذ السابقة (حكومة إدلب!)، وعدد من وزراء آخر حكومة في عهد بشّار الأسد، ليس منهم وزراء الخارجية والداخلية والدفاع والإعلام. وبهذا، مهامّ وزراء هذه الحكومة هي أشبه بمهام وكلاء الوزارات، أو الأمناء العامّين في تسمية أخرى، أو المدراء العامين للوزارات في تسمية ثانية، وهي تسمياتٌ تشير إلى المسؤول الثاني في الوزارة، والذي يتعهد بتسيير أعمال الوزارة.
ووفق هذا الوضع، ينتهي تكليف هذه الحكومة في مارس/ آذار المقبل، ويُفترض أن الحكومة اللاحقة هي التي سوف تستحق أن توصف انتقالية، من مهامّها الرئيسية تهيئة البلاد للانتقال إلى عهد جديد، يقوم على المشاركة السياسية وسيادة القانون والفصل بين السلطات. وما يتطلّبه ذلك من تهيئة تشريعات للانتخابات العامة البرلمانية والرئاسية، ووضع قوانين للإعلام ولتنظيم تشكيل الأحزاب والجمعيات والنقابات. على أن ينظر مجلس النواب المنتخب في هذه القوانين، والأحرى مشاريع القوانين، ويضع ما يراه من ملاحظات وإدخال ما يراه من تعديلاتٍ عليها وإقرارها. ومن الطبيعي أن تكون الحكومة الانتقالية، المفترض تشكيلها بعد ثلاثة أشهر على الأكثر، ذات طابع سياسي تشاركي، وأن تجمع بين الطابعين السياسي والتكنوقراطي، وأن تقود تلك الحكومة شخصية ذات خبرات سياسية وإدارية، وتحظى باحترام واسع في الداخل، وتقود السياسة الخارجية في الوقت نفسه.
وكان من اللافت صدور تصريحات في دمشق بأن حكومة البشير التمهيدية سوف تعمد إلى تشكيل لجنة قانونية لوضع دستور جديد، وبينما يرتدي وضع دستور أهمية بالغة وحيوية لمواكبة التحوّل الذي تعيشه البلاد، ولضمان حقوق السوريين حاضراً ومستقبلاً، فإن مهمّة كهذه قابلة للتأجيل بضعة أشهر، وبحيث يُناط بحكومة انتقالية ذات طابع سياسي تعدّدي اختيار لجنة صياغة دستور جديد، فمثل هذه الحكومة هي المؤهلة لأداء هذه المهمّة، خلافاً للحكومة الحالية التي يُعهد إليها تأمين الخدمات الأساسية، بما في ذلك بسط الأمن بصورة عادلة، تُطمئن السوريين. ولأن الحكومة الحالية ذات لون سياسي واجتماعي واحد تقريباً، يتعذّر أن تتمكّن من خلال لجنة قانونية من وضع دستور عصري متطوّر يضمن الحقوق الفردية والجماعية ويحدّد الواجبات، ويعكس واقع التعدّدية التي تسم المجتمع السوري الكبير الغني بتنوّعه.
من حقّ الجميع في الظروف الجديدة إبداء آرائهم بحرّية والتأشير إلى الأخطاء ومواطن الخلل متى ما وجدت، لكن مع الأخذ في الاعتبار الظروف الحالية التي تتطلب حلولاً عاجلة لخدمات المياه والكهرباء والتعليم والصحة وسلامة المجتمع من الجنح والجرائم، وتأمين المواد التموينية للفئات الأشد فقراً، ابتداء من تأمين الخبز والحليب للأطفال، وهو ما أملى الإعلان عن هذه الحكومة بصورة مستعجلة، كما أملى خلال الأيام الأولى للتغيير الإبقاء على حكومة عثمان جلالي، والتي اختفى بعض أعضائها أو غادروا البلاد.
والمأمول أن تُبدي الشخصيات العامة روحاً إيجابية في التعامل مع هذه المرحلة، من أجل حل المشكلات الملحّة وعدم التسبب بنشوء مشكلات إضافية، فالنظام الجديد لم يتبلور، وتحتاج بلورته جهداً جماعياً ومشاورات واسعة بروح بنّاءة وموضوعية، ومن حقّ من قادوا التغيير التاريخي التعامل معهم باحترام، كما من واجب من قادوا التغيير تسهيل بلورة نظام سياسي جديد يكتسب شرعيته بالانتخاب والتفويض الشعبي، وفق قوانين انتخاب عصرية، إذ ليس خافياً ولا غائباً عن الأذهان أن المتضرّرين من التغيير سوف يسعون إلى إفشال التجربة في مهدها أو وضع العصي في عجلتها، أو تأليب مكونات المجتمع بعضها على بعض، أو ارتكاب ما يخطر ولا يخطر على البال من حوادث. من هنا، تبرُز أهمية استثنائية لمساهمة الشخصيات العامة ومنصّات المعارضة ومنظمات المجتمع المدني والأكاديميين والمثقفين والوسائط الإعلامية المستقلة في تحصين الانتقال وحمايته. وكما تحقّق التغيير بأداء راقٍ أبدى كل الاحترام لمكونات المجتمع وأفراده، ما سوف يسجّل في تاريخ هذا البلد “بأحرفٍ من نور”، فإن من الواجب مواصلة هذا النهج في بناء الهيئات الانتقالية، وفي إرساء الوحدة الوطنية وتجريم العنف المجتمعي أو الفئوي، وفي التحضير لمرحلة الاستقرار وإعادة بناء ما هدمه ودمره النظام السابق، وهي مهمّات جليلة تنادي القوى الحية من مختلف المشارب والمذاهب للمشاركة بها بدل الاكتفاء بتسجيل الأخطاء.