الانقسام الفلسطيني: نكبة ثانية صنعتها حماس وأحسن نتنياهو استثمارها لإجهاض حلم الدولة

بن معمر الحاج عيسى

إذا كانت النكبة الأولى عام 1948 قد سرقت من الفلسطينيين أرضهم وألقت بهم في المنافي، فإن النكبة الثانية لم تكن أقل فداحة حين قاد الانقسام الفلسطيني عام 2007 إلى تمزيق الجسد الوطني من الداخل، وفتح الباب واسعاً أمام المشروع الصهيوني لتصفية أي أفق للدولة الفلسطينية. ما فعلته حماس بانقلابها في غزة لم يكن مجرد خطأ سياسي أو لحظة عابرة في مسار الصراع، بل كان الحدث الذي شكّل هدية استراتيجية نادرة لبنيامين نتنياهو واليمين الإسرائيلي، الذين بنوا مشروعهم كله على قاعدة منع قيام دولة فلسطينية مستقلة بأي ثمن.

في كتابه المرجعي “مكان تحت الشمس”، يعلن نتنياهو بوضوح: “إن أخطر ما أقدم عليه اليسار الإسرائيلي هو قبوله باتفاق أوسلو، لأن مجرد الاعتراف بكيان فلسطيني، حتى لو كان منزوع السلاح، يعني فتح الطريق نحو دولة فلسطينية، وهذا خطر وجودي على إسرائيل”. هذه العقيدة السياسية لم تكن مجرد تنظير أكاديمي، بل تحولت إلى خطة عملية منذ عودته إلى الحكم في 1996، حيث كرّس كل جهوده لإفشال أوسلو وإضعاف السلطة الفلسطينية، ووجد في الانقسام الفلسطيني لاحقاً أفضل أداة لتحقيق ذلك.

المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابِه، المعروف بقراءته النقدية للتاريخ الصهيوني، يرى أن “الانقسام الفلسطيني لم يكن صدفة، بل جرى استثماره من قبل إسرائيل بدقة. فإسرائيل كانت تدرك أن سلطة فلسطينية موحدة قادرة على التفاوض على الدولة تشكل خطراً عليها، لذلك كان من مصلحتها أن تُقسم الفلسطينيين بين كيانين متصارعين”.

وهذا ما يؤكده أيضاً المحلل السياسي الأمريكي نعوم تشومسكي، الذي كتب أن “الانقسام الفلسطيني كان هدية مجانية لإسرائيل، منحها فرصة التملص من أي التزامات تفاوضية، بدعوى أن الفلسطينيين لا يملكون قيادة موحدة تمثلهم”.

كيف مهّدت إسرائيل للانقسام؟

انسحاب إسرائيل من غزة عام 2005 بدا للوهلة الأولى خطوة لصالح الفلسطينيين، لكن القراءة العميقة تكشف أنه كان انسحاباً مدروساً لتفخيخ المستقبل. الصحفي الإسرائيلي ألوف بن، رئيس تحرير “هآرتس”، قال في أكثر من تحليل: “الانسحاب من غزة لم يكن خطوة سلام، بل كان خطة تكتيكية لفصل غزة عن الضفة، وتحويلها إلى عبء إنساني وأمني على الفلسطينيين وحدهم”.

والأكثر إثارة أن إسرائيل، رغم سيطرتها التامة على محور فيلادلفيا حتى 2005، سمحت بمرور السلاح إلى حماس من سيناء، بينما منعت أي تسرب مماثل في الضفة الغربية على طول الحدود مع الأردن. المحلل المصري عبد الوهاب المسيري، في موسوعته عن الصهيونية، يشير إلى هذه النقطة بقوله: “إسرائيل لا تسمح بانتشار السلاح عشوائياً، ما حدث في غزة كان غض طرف مقصوداً، لأنها أرادت صناعة قوة داخلية توازن السلطة وتفجر الانقسام”.

وحين اندلعت المواجهات بين فتح وحماس في غزة عام 2007، تركت إسرائيل النار تستعر دون تدخل، رغم أن جميع المراقبين أكدوا أنه كان بإمكان الجيش الإسرائيلي أن يمنع سيطرة حماس بطائرتي هليكوبتر. الكاتب البريطاني ديفيد هيرست يرى في هذا السياق أن “إسرائيل لم تتدخل لأن النتيجة كانت تصب في مصلحتها: سلطة محاصرة في غزة بلا شرعية، وسلطة ضعيفة في رام الله بلا سيادة”.

الانقسام كنكبة ثانية

لا يمكن وصف ما حدث إلا بأنه النكبة الثانية. ففي حين أن نكبة 1948 مزّقت الجغرافيا الفلسطينية، جاءت نكبة 2007 لتُمزّق المشروع الوطني ذاته. ومنذ ذلك التاريخ، لم يعد ممكناً الحديث عن دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً أو سياسياً. السلطة في رام الله فقدت شرعيتها التمثيلية الكاملة، وحماس في غزة عاشت في عزلة وحصار، فيما إسرائيل تنظر من بعيد وهي الرابح الأكبر.

المحلل الفلسطيني خليل شاهين كتب: “الانقسام الفلسطيني كان أخطر من كل الاجتياحات العسكرية، لأنه دمّر المشروع الوطني من الداخل، وأعطى إسرائيل ذريعة مثالية لدفن حل الدولتين”.

حتى القيادي السابق في حركة الجهاد الإسلامي جميل عبد النبي اعتبر أن “الانقسام هو النكبة الحقيقية الثانية، لأنه دمّر فكرة الدولة الفلسطينية الموحدة، وأعطى إسرائيل فرصة تاريخية للتنصل من أي استحقاقات سياسية”.

رؤية نتنياهو: الأردن هي “فلسطين”

في كتابه، يذهب نتنياهو إلى أبعد من رفض الدولة الفلسطينية، إذ يزعم أن الأردن هي الدولة الفلسطينية الحقيقية. يقول: “من يرغب من الفلسطينيين بدولة، فعليه الذهاب إلى الأردن. لا يمكن القبول بسابقة إقامة دولة فلسطينية جديدة في أرض إسرائيل”. هذه الرؤية تترجم عملياً سياسة إسرائيل منذ عقدين: إغراق الضفة بالاستيطان، فصل غزة، وطرح الأردن كـ”الوطن البديل”.

المفكر العربي محمد حسنين هيكل كان قد حذّر مبكراً من هذا الطرح قائلاً: “إسرائيل لا تريد دولة فلسطينية، هي تريد التخلص من الفلسطينيين أنفسهم عبر دفعهم إلى الأردن”.

الطوفان: مقامرة فوق الانقسام

وإذا كان الانقسام عام 2007 قد مثّل الكارثة الثانية، فإن ما سُمّي بـ”طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023 لم يكن إلا مقامرة جديدة عمّقت المأساة. فالهجوم الذي نفذته حماس منح نتنياهو فرصة ذهبية لتدمير غزة تحت غطاء “حق الدفاع عن النفس”، وجعل العالم الغربي يصطف خلف إسرائيل، بينما بقيت الضفة مشلولة والسلطة مغيبة.

المحلل الإسرائيلي بن كاسبيت كتب صراحة: “حماس قدّمت لنتنياهو أكبر خدمة، فقد أعادت له شرعيته السياسية، ومنحته فرصة لفرض أجندته الأمنية”. أما المحلل العربي مأمون فندي فقال: “الطوفان كان مقامرة غير محسوبة، نتائجه الكارثية لم تمسّ إسرائيل بقدر ما دمّرت غزة والفلسطينيين”.

الخلاصة

منذ 2007، تحولت القضية الفلسطينية إلى مشروع ممزق، فاقد للبوصلة. إسرائيل نجحت، بذكاء ودهاء، في استغلال الانقسام لصالحها، وحماس، سواء بوعي أو بغير وعي، تحولت إلى أداة غير مباشرة في خدمة هذا المشروع.

إن الانقسام لم يعد مجرد خلاف سياسي، بل هو جريمة تاريخية بحق الشعب الفلسطيني. لقد أضاع الفلسطينيون وحدتهم، وأضاعوا دولتهم، فيما إسرائيل تمضي في مشروعها الاستيطاني وتعرض على العالم روايتها المريحة: “لا يوجد شريك فلسطيني”.

اليوم، وبعد مرور أكثر من 18 عاماً على الانقسام، يجب الاعتراف بالحقيقة المرة: ما فعلته حماس في 2007 كان انقلاباً على الحلم الفلسطيني، وهدية استراتيجية لنتنياهو. وإذا كانت النكبة الأولى سرقت الأرض، فإن النكبة الثانية سرقت الحلم. وبين النكبتين، لا يزال الشعب الفلسطيني ينزف، بينما يضحك نتنياهو في سرّه وهو يردد عبارته في مكان تحت الشمس: “لا مكان لدولة فلسطينية هنا، فمكانها هناك، خلف النهر”.