الانقسام المجتمعي الفلسطيني… نكبة الوعي الجديدة

بقلم : فراس الطيراوي 

لم يكن الفلسطينيون في تاريخهم الحديث أكثر تهديدًا في نسيجهم الداخلي كما هم اليوم.

فما بعد الحرب الأخيرة على غزة، لم يعد الانقسام السياسي بين فتح وحماس هو الجرح الأعمق في الجسد الفلسطيني؛ بل ظهر جرح أخطر، يضرب الروح لا السياسة، وينخر المجتمع لا السلطة: الانقسام المجتمعي.

 

لقد تجاوزنا مرحلة الخلاف الفصائلي، وبدأنا نغرق في حالة تشظٍّ اجتماعي وفكري غير مسبوقة، تُحوّل الفلسطيني من رفيق نضال إلى خصم، ومن شريك في الوجع إلى متَّهَم في وطنيته. هذه ليست مجرد أزمة سياسية، بل أزمة هوية وطنية وأخلاقية، إن لم تُواجه بسرعة، فستتحول إلى سرطان يلتهم ما تبقّى من وحدة الشعب الفلسطيني.

 

من انقسام النخبة إلى انقسام الشارع

لأكثر من خمسة عشر عامًا، ظلّ الانقسام السياسي قائمًا بين سلطتين وسياستين، لكن المجتمع الفلسطيني بقي صامدًا رغم الانقسام، موحَّدًا حول قضيته وعدالة نضاله.

أما اليوم، فالمشهد مختلف وخطير. فالنار التي كانت محصورة في أروقة السياسة امتدّت إلى الشارع، إلى البيوت والمخيمات والمدارس، حتى إلى فضاء مواقع التواصل التي تحوّلت إلى ساحات حرب كلامية بين الفلسطينيين أنفسهم.

نرى شبانًا يخوّنون بعضهم، وأقلامًا تكتب بلغة الكراهية، واتهامات تتطاير بين أبناء الشعب الواحد وكأنهم جبهات متصارعة.

لقد أصبحنا نعيش حالة من التشظي النفسي والاجتماعي تُهدد بتدمير اللحمة الوطنية التي كانت أهم سلاح في مواجهة الاحتلال عبر كل المراحل.

 

الخارج… من منبر التضامن إلى منصة الفتنة

الأدهى من ذلك أن هذا الانقسام الجديد يُغذَّى بشكل متزايد من الخارج.

فبعض الفلسطينيين في الشتات، بدل أن يكونوا سفراء لقضيتهم ومدافعين عن وحدة شعبهم، صاروا وقودًا للفتنة ومصدراً لتحريضٍ لا يخدم إلا الاحتلال.

من وراء الشاشات البعيدة، تُلقى الخطب النارية وتُوزَّع صكوك الوطنية على من يوافقهم الرأي، وتُسحب من كل من يختلف معهم.

يتحدث البعض بلسان الغربة وكأنهم يملكون مفاتيح الحقيقة، بينما من يعيشون تحت القصف والجوع في غزة والضفة يعانون بصمت ويقاتلون من أجل البقاء.

أي منطق هذا الذي يجعل من المهاجرين إلى الأمان قضاةً على من يعيشون في الجحيم؟

وأي وطن نريد إن كان أبناؤه يتنازعون في الخارج على رواية، بينما الداخل يُدفن تحت الركام؟

إنّ خطاب الكراهية الذي يصدر عن بعض الفلسطينيين في الخارج ليس سوى خدمة مجانية للاحتلال، الذي لطالما حلم بتمزيق المجتمع الفلسطيني من الداخل، لا بالمدافع بل بالكلمات.

 

ظاهرة دخيلة… وعيٌ مستباح

الشعب الفلسطيني الذي واجه الاحتلال بصدره العاري منذ النكبة لم يكن يومًا منقسمًا اجتماعيًا.

عرف الفلسطيني معنى الشراكة في الخبز والدم والمصير، في المخيمات والمنافي والسجون، فكانت وحدته المجتمعية أقوى من كل الانقسامات السياسية.

لكنّ ما يحدث اليوم غريب عن تاريخه وقيمه، دخيل على وعيه الجمعي.

إنّ أخطر ما في الانقسام المجتمعي أنه يُعيد تعريف الفلسطينيين لأنفسهم ليس كأبناء وطن واحد، بل كجماعات متقابلة ومتصادمة، تفرّقها الانتماءات الفرعية والاصطفافات الضيقة.

في لحظة كهذه، تتحول القضية من معركة تحرر إلى معركة هوية، وتضيع البوصلة بين مقاومٍ ومؤيّد، ووطنيّ ومُتّهم، حتى لا يبقى للوطن مكانٌ في الحوار.

 

حين يصبح الانقسام نمط حياة

الخطر الأكبر ليس فقط في وجود الانقسام، بل في الاعتياد عليه.

حين يتقبّل الناس فكرة أن الفلسطيني يمكن أن يكره الفلسطيني، وأن الاختلاف مبرّر للعداء، تكون الكارثة قد بدأت.

الانقسام المجتمعي، إن تُرك دون مقاومة فكرية وأخلاقية، سيحوّل كل بيت إلى جبهة، وكل فكرة إلى تهمة، وكل كلمة إلى سلاح.

وهنا تكمن خطورته: إنه لا يقتل بالرصاص، بل يقتل بالوعي.

يُدمّر فكرة الوطن من الداخل، ويجعل الاحتلال أكثر راحة من أي وقت مضى، لأنه يرى الفلسطينيين منشغلين ببعضهم، لا به.

 

الوعي الجمعي هو جبهة المقاومة الأولى

حين تتآكل الثقة بين أبناء الشعب الواحد، تسقط الجبهة الداخلية التي تحمي القضية.

الوحدة المجتمعية ليست شعارًا للاستهلاك، بل هي سلاح استراتيجي، لا تقل أهميته عن البندقية.

فالمجتمع الموحّد يصنع مقاومة قوية، والمجتمع الممزّق لا يصمد حتى أمام إشاعة واحدة.

لذلك، فإن معركة الفلسطينيين اليوم ليست فقط ضد الاحتلال، بل ضد الانقسام أيضًا.

هي معركة على الوعي، على الخطاب، على المعنى نفسه.

من يكسب الوعي يكسب المعركة، ومن يخسر الوعي يخسر كل شيء قبل أن تبدأ المعركة.

 

نداء الضمير

أيها الفلسطينيون في الداخل والخارج:

احذروا أن تقتلوا قضيتكم بأيديكم.

لا تجعلوا من الغضب وقودًا للفتنة، ولا من الخلاف مبررًا للعداء.

تذكّروا أن هذا الوطن أوسع من كل الفصائل، وأقدس من كل الاصطفافات، وأبقى من كل الخلافات.

فلسطين لا تحتاج مزيدًا من الصراخ، بل مزيدًا من الوعي.

لا تحتاج منابر انقسام، بل قلوبًا تتسع للجميع.

ومن لا يُدرك اليوم أن الوحدة المجتمعية هي خط الدفاع الأخير عن فلسطين، سيستيقظ غدًا على وطنٍ تتقاسمه الكراهية بدل الحرية.

في الختام: الانقسام المجتمعي هو نكبة الوعي الفلسطيني الجديدة.

فإذا كانت النكبة الأولى سرقت الأرض، فإن هذه النكبة تسرق الإنسان.

ولا خلاص منها إلا بإحياء الضمير الوطني، واستعادة الثقة بين أبناء الشعب الواحد، وتوحيد الكلمة في وجه عدوّ واحد لا يزال هناك على الأرض، لا خلف الشاشات.

فالوحدة ليست خيارًا سياسيًا، بل قدر وطني وأخلاقي لا مفر منه.

ومن لا يرى في ذلك أولوية، لا يرى فلسطين كما ينبغي أن تُرى.

 

*ناشط سياسي وكاتب عربي فلسطيني عضو الامانة العامة للشبكة العربية للثقافة والرأي والإعلام/ شيكاغو .