أحمد الشرع، قائد سوريا الحالي، نجح إلى الآن في الخروج من الصورة النمطية لأبومحمد الجولاني؛ رجل الدين الراديكالي الذي ولد من رحم أيديولوجيا السلفية الجهادية. فدأب منذ أن أسقط هو وأعوانه نظام بشار الأسد البعثي، على إيصال رسائل تفتح له آفاق التواصل مع المجتمع الدولي، الذي سيكون سلاحه الأقوى في محاربة الدولة البعثية العميقة التي استجابت للتغيرات السياسية المتلاحقة داخل الجمهورية السورية دون إبداء رد فعل عكسي يظهر من خلاله أنها مازالت رقما في معادلة الداخل السوري، على غرار ما جرى في دول عربية أُسقطت بها أنظمة سياسية، واستحوذت تيارات إسلامية على مقاليد الحكم، لتعاود الدولة العميقة بداخلها استرجاع الحكم مجددا.
طبيعة سوريا السياسية تختلف عن باقي الدول التي جرت فيها ثورات ما سمي بـ“الربيع العربي”. فالصراع الذي امتد داخلها على مدار عقد ونصف العقد، بكافة التحولات التي شهدتها مساراته السياسية والعسكرية، وما ترتب عليه من عقوبات دولية، وبقاء رواسب لنفوذ إيران وروسيا داخل طبقات الدولة السورية الإدارية والأمنية، والقلق المشروع من وصول متشددين أو متطرفين إلى سدة الحكم وما يعتريه من ضبابية في مشهد الدولة المستقبلي، كلها دوافع تراكمية ساهمت في ظهور تكوين عناوين شخصية أحمد الشرع الجديدة ذات الصبغة البراغماتية. فالرجل اتخذ منهج الواقعية في مساقات القرارات كأساس لمعالجة المواقف الحالية المحكومة للواقع السوري على الأرض، مع الحفاظ بالحد الأدنى على عناصر سياسته المحافظة “الدينية”، وهو ما تقبله السوريون إلى الآن، وتفهمه العرب ومن ثم المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة.
التعقيدات السياسية التي يمتلئ بها المشهد السوري الراهن، والرهانات، اليوم وغدا، على براغماتية أحمد الشرع وأعوانه للخروج الآمن من حقل الألغام الذي وضعوا أنفسهم فيه بإسقاط نظام البعث الأسدي، تتطلب أكثر من مقاربة سياسية؛ مقاربات تتجاوز في إطارها الاستناد إلى نموذج رجب طيب أردوغان السياسي. فالحقيقة التي يجب على جميع الأطراف إدراكها أو عدم إغفالها هي طموح الشرع إلى الاستمرار في حكم دمشق وخلق نظام يمنح الأتراك موطئ قدم إستراتيجيا جديدا في منطقة الشرق الأوسط. لذلك، نهجه البراغماتي الذي يظهره ليس فقط للخروج من حقل الألغام، بل أيضا لتثبيت أركان نظام سيؤسسه ضمن تفاهمات إقليمية ودولية تملأ فراغات سياسية ناتجة عن أفول المحور الإيراني في عواصم نفوذه التي كان يتفاخر بها.
اختبارات كثيرة وتحديات جمة تنتظر براغماتية سياسات وقرارات الجولاني سابقا، الشرع حاليا، لعل أهمها إقرار دستور يؤكد مدنية الحكم ومساره الديمقراطي، ويمتلك آليات فعّالة وقدرة حقيقية على استرجاع وحدة أراضي الدولة، بتوافق وحدوي بين ممثلي أطياف وطوائف ومكونات المجتمع السوري، ليعكس مدى جدية النهوض مجددا بالدولة التي أنهكها نظام البعث وعبثية اصطفافه الإقليمي.