بخوف وهلع بالغَيْن، يتابع العالم مشهدًا لم يتكرر إلا في أوائل ستينيات القرن العشرين، حين كادت أزمة صواريخ كوبا، تؤدّي إلى حدوث حرب عالمية نوويّة بين السوفيت والأميركيّين.
هذه المرة تبدو المواجهة من جرّاء سماح الرئيس الأميركي جو بايدن، لحليفه الأوكراني زيلينسكي بتهديد العمق الروسي، وبصورة لم تَجْرِ بها المقادير منذ الحرب العالمية الثانية، حين وصل النازيون إلى ستالينجراد قبل أن يتم دحرهم لاحقًا.
يتساءل المراقبون للمشهد الأميركيّ عن الرئيس الذي بدا بالفعل في قمة العشرين “بطّة عرجاء”، يقابل تساؤلات الصحفيين في رحلته إلى بيرو والبرازيل، بابتسامة صفراء وشرود ذهن غير طبيعيّين، والسبب الذي يدفعه لإشعال العالم نوويًّا حال خُيِّلَ لزيلينسكي أنه قادر بالفعل على تهديد المواقع والمواضع الإستراتيجية لروسيا.
هل اختار بايدن بالفعل قرار الموت “بشكل جميل” آخذًا معه قسمًا من البشرية، على حد تعبير ديمتري ميدفيديف، الرئيس الأميركي السابق، ونائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي الحالي؟
يبدو جمهور المراقبين في الداخل الأميركيّ وفي الخارج، في حالة شديدة الحيرة من قرارات بايدن الأخيرة، بالسماح لأوكرانيا باستخدام صواريخ أتاكمز التي تصيب أهدافها على بُعد 300 كيلومتر، وهيمارس 150 كيلومتر، ناهيك عن السماح لمقاولي الدفاع الأميركيّ بالعمل بهمّة ونشاط سريعَيْن من أجل تدريب الأوكرانيين على بطاريات الدفاع الصاروخي من نوع باتريوت، عطفًا على تمكين طياري أوكرانيا من قيادة المقاتلة النفاثة “إف -16″، لردع القوات الجوية الروسية.
بالإضافة إلى ذلك، فقد بدا واضحًا أن لدى إدارة بايدن، وفيما تبقى لها من أيّام معدودات في البيت الأبيض، لا تزيد عن 60 يومًا، خطة لتزويد أوكرانيا بعتاد هجومي يناهز السبعة مليارات دولار، بما في ذلك الألغام الأرضية المضادّة للأفراد، والتي تساعد من وجهة نظر العسكرية الأميركية في غطاء التقدم الروسي.
عدة أسئلة تقابل قارئ هذه السطور تبدأ من عند ما الذي يريده بايدن على وجه الدقة؟
الجواب في حدّ ذاته يدعو للقلق، ذلك أنه من وجهة نظر يبدو سيد البيت الأبيض الذي جرت إزاحته من قبل حزبه، ناقمًا على الجميع، مهما ادّعى من محاولات تسهيل عملية تسليم السلطة بشكل سلمي.
نقمة بايدن شديدة الوقع، على أركان حزبه، الذين خذلوه أول الأمر، وعلى ترمب الذي استطاع بالفعل أن يحقق نصرًا مؤازرًا من ملايين الأميركيين، ما يؤكد على الأقل من وجهة نظر مريديه من الجمهوريين، أنه كان على صواب حين كرر مرارًا أن انتخابات الرئاسة 2020 قد تمّ تزييفها وأن النتيجة كانت لصالحه، وربما يكون ناقمًا على عموم الأميركيين.
هل يعني هذا أن بايدن بات يؤمن بالسيناريو الشمشوني قبل أن يرحل من البيت الأبيض؟
مؤكد أنه لن يكون سعيدًا بتحقيق ترمب نجاحات سريعة في المائة يوم الأول من حكمه، سيما أن الرجل آتٍ برؤية ثورية انقلابيّة، تتجسد في المشروع اليميني الماروائي الكبير والخطير، مشروع 2025، ذاك الذي أعدت له بقوة وحنكة مؤسسة “هيرتاج فاونديشن”، ذات الأبعاد اليمينية، بقيادة “كيفن روبرتس”، والذي يشكل بالفعل عقل نائب ترمب “جي دي فانس”.
الكارثة وليست الحادثة أن الأمر يتجاوز فكرة تعكير أجواء الإدارة الترمبية القادمة، ويمتد إلى إثارة جنون القيصر بوتين، لا سيما إذا طالت الأسلحة الأميركية المختلفة، أهدافًا متقدمة داخل الأراضي الروسية مثل محطة الطاقة النووية في كورسك، تلك التي تُعَدّ واحدة من ثلاثة محطات تنير الدولة الروسية، وحال إعطابها، ستخرج العديد من المدن الروسية من دائرة النور، وتدخل في مجال العتم، ما يسبب لروسيا خسائر على ثلاثة أصعدة، اقتصاديًّا أول الأمر، وعسكريًّا تاليًا، فيما الأشد خطوة هو الضرر النفسي الذي سيقع على عموم الروس.
نفر آخر من المراقبين يتساءلون: “هل الأمر مجرد تلويح بأسلحة متقدمة لإجبار بوتين على الدخول في مفاوضات وإنهاء زمن الحرب باسرع وقت؟”.
أصحاب هذا التوجه يقطعون بأن بايدن في واقع الأمر رئيس منتهي الصلاحية ذهنيًّا، وأنه غير مدرك بما يدور من حوله، والدليل الحالة التي بدا عليها في قمة العشرين، وأن التحركات برمّتها تجري برسم الدولة الأميركية العميقة وأذرعها الممتدة في كافة المؤسسات الحكومية الأميركية، وبتنسيق بين وزارتي الدفاع والخارجية، والدليل أنه فيما العسكريون يرسلون الأسلحة المتقدمة، يصرح وزير الخارجية أنتوني بلينكن بأن إدارته لن تألو جهدًا حتى اليوم الأخير في دعم أوكرانيا.
يعنّ لنا ضمن سياق هذه التساؤلات البحث عن الرئيس المنتخب، وهل هو خارج الصورة بالمطلق، أم أنه حاضر ولو بشكل ماورائي في المشهد؟
الذين لهم دالة على فهم تقنيات وتكتيكات المرحلة الانتقالية الرئاسية في الداخل الأميركي، يعرفون تمام المعرفة أن المرشحين للرئاسة يتلقون منذ دخولهم حلبة السباق تقارير يومية عن الأوضاع العالمية والصراعات العسكرية حول العالم، فما بالنا بالرئيس المنتخب.
هنا يمكن الاعتقاد بوجود تنسيق ما يجري في هذه الآونة من وراء الستار، بين إدارة بايدن ومستشاري ترمب، يلوح فيه الأول بالعصا، ويترك مكانًا في نهاية الأمر للجزرة التي سيحملها ترمب بشكل أو بآخر.
غير أن الإشكالية الحقيقية تتمثل في ردات الفعل الروسية على الهجمات التي انطلقت بالفعل عبر صواريخ أتاكمز، وما الذي سيذهب إليه القيصر بوتين.
في الثاني عشر من سبتمبر/ أيلول المنصرم، أشار بوتين إلى أن انطلاق مثل هذه الأسلحة من أوكرانيا، أمر لا تستطيعه العسكرية الأوكرانيّة، من غير دعم وتخطيط عسكريّ غربيّ على الأرض من ناحية، وصور للأقمار الاصطناعية لا تتوافر عليها كييف، بل الناتو فقط، من ناحية أخرى.
يقطع بوتين بأن المشهد في هذا الإطار ينقل الحرب من مستوى إلى آخر، وقد جاءت كلماته مغلفة بشيء من الغموض، وربما كان غموض مقصود ليترك لمن وراءه وبخاصة رجله المقرب ميدفيديف إطلاق تصريحات الموت، ما يمكن أن يسمح له بالتراجع بعض الخطوات إن لزم الأمر.
في الشهرين الماضيين، دارت النقاشات في الحواضن الغربية الفكرية عن تهافت بتهديدات بوتين بشأن استخدام الأسلحة النووية في الرد على ما يمكن أن يتهدّد الأعيان المدنية، أو الأهداف العسكرية الروسية في الداخل.
غير أن تغيير العقيدة النووية لروسيا في الأيام القليلة الفائتة، والتعليمات التي أصدرها الرئيس بوتين بشأن ضمان أمن جميع المنشآت الحيوية بما فيها جسر القرن، ربما يدفع هولاء وأولئك لمراجعة أوراقهم وإعادة تقييم موقف بوتين عبر اللعبة الاستخبارية الشهيرة “محامي الشيطان”.
هل من طرف غائب في وسط هذا الحوار؟
مؤكّد أن هناك صمتًا مثيرًا وربّما خطيرًا في الموقف الأوروبي، سيما أن قادة القارة العجوز قد وقر لديهم أن “الدب لا يقيد”، وأن صواريخ القيصر، المحمولة جوار، والمختبئة من حولهم بحرًا، لن توفر عواصم متقدمة مثل باريس وروما، برلين ولشبونة، أمّا لندن فيسكون لها النصيب الأكبر من المحرقة النوويّة.
هل العالم في حاجة إلى محرقة نووية جديدة؟
علامة استفهام مطروحة على موائد النقاش، غير أن الكارثة لا الحادثة هي أن حارتنا الكونية مصابة بآفة النسيان إلا ما رحم ربّك.