السياسي – في هذا العصر، أصبح الكثيرُ من الأدعياء يتسابقون إلى الظهور، ووجدوا ضالتهم في منصات التواصل الاجتماعي، فدبجوا المقالات وسودوا الصفحات، لعلهم يجدون طريقا للشهرة. وبين سيل المواد المنشورة يوميا، قلّما تجد ما يفيد، فسائرُها كالغثاء: لا علم يُهتدى به، ولا رأي يُستفاد منه، بل محاكاة عمياء تُوهم أصحابها أنهم مفكرون، لكنهم في الحقيقة بَبَّغاوات لا يكادون يفقهون قولا.
وبينما كانت المعرفة يوما تتطلب سنواتٍ من الدراسة، والخبرة تستلزم ممارسة طويلة يعتد بها، صار اليوم كل من يمتلك هاتفا ذكيا، وحسابا على المواقع الاجتماعية، يُقدّم نفسه خبيرا في الدين، والسياسة، والتراث، واللغة، والأدب، والاقتصاد، وحتى الطب، دون أن يمتلك أيّ تأهيلٍ حقيقي، بل وأحيانا دون فهم مفردات ما ينشره!
ولا يقتصر هذا الإشكال على الرغبة الفردية في الظهور فحسب، بل هو أيضا نتيجة لتحول بنيوي في إنتاج المعرفة. فسرعة تداول المعلومات في العصر الرقمي خلقت نظاما جديدا للمعرفة يرتكز على الترند والإثارة، وقد طغى في كثير من الأحيان على العلم المعتبر، القائم على التخصص والتحقيق. وأصبحت المكانة الاجتماعية تُقاس بعدد المتابعين والمشاركات، مما حوّل الفضاء الرقمي إلى سوق استهلاكي للمحتوى، حيث تتنافس الآراء على الظهور بغض النظر عن جودتها.
والأخطر أن هذه الظاهرة لا تقتصر على محدودي التعليم، فكم من بَبَّغَاء إلكتروني يحمل أعلى الدرجات الأكاديمية، لكن تنقصه الحكمة، فيتطفل على غير تخصصه، ليُنتج من التحليلات الساقطة ما يُضحك الثكالى، وهنا تتحول المشكلة: من جهل المعلومات إلى غياب المنهج، ومن الخطأ البشري المتفهم إلى انتفاء الأخلاق المعرفية التي تحتم على المرء أن يعرف حدوده وقدراته.
والملاحظ أن أغلب هؤلاء البَبَّغاوات يبحثون عن الموضوعات الجريئة والمثيرة للجدل، شرط أن تكون آمنة. فجرأتهم المزعومة غالبا ما تستهدف الأضعف ولو كان من بني جلدتهم، وتتجنب الأقوى ولو كان عدوا. وحالهم يطابق قول من قال:
حدّثْ ولا حرجٌ عن عُرف من سفلوا
واستمرأوا الخذل، لمّا كلتِ الهمم
وقد زاد من خطورة تلك الظاهرة انتشار برامج الذكاء الاصطناعي، التي تحول صاحبها -بكل سهولة- إلى ماكينة نشر عن كل شاردة وواردة، فبضغطة زر تكون المقالات جاهزة للنسخ، صحيحة كانت أم خاطئة، الأهم أن تكون مثيرة وآمنة في آن واحد.
وتكمن المشكلة الأعمق في أن هذه المنصات -الرأسمالية- لا تُصمَّم لتحقيق المصلحة العامة أو نشر العلم المعتبر، بل لتعظيم الأرباح بزيادة وقت المشاهدة والتفاعل. فالخوارزميات التي تدفع المحتوى لا تسأل عن صحته، بل عن قدرته على إثارة الدهشة أو الغضب أو الجدل. وهكذا، يُكافأ البَبَّغَاء بقدر ما ينتج ضجيجا، بينما يُهمش الصوت الهادئ المدعوم بالأدلة لأنه لا يولد التفاعل المطلوب تجاريا. لقد أصبحنا أمام اقتصاد انتباه تهمش فيه الحقائق من أجل الإثارة.
وما يجري اليوم في الفضاء الرقمي ليس اختراعا جديدا، بل امتدادا لمسالك قديمة تُتقنها قوى الهيمنة منذ فجر الاستعمار: فكما كان الاحتلال يبحث دوما عن المرتزقة الأذكياء ليصدّروا له شرعية مزيفة، فإنه أيضا يبحث عن البَبَّغاوات الحمقى ليسيروا في مواكبه.
وها هو اليوم تجد في البَبَّغَاء الإلكتروني أداة أنسب: فهو لا يطلب راتبا، ولا يوقّع عقدا، بل يُقدّم خدماته طواعية، ظانا أنه يمارس حريته، بينما هو في الحقيقة يبحث عن الشهرة بنشر الترهات، دون فهمٍ أو وعي، ثم يتحول تدريجيا -بدون أن يدري- إلى ترديد سرديات المحتلّ، بسذاجةٍ مفرطةٍ تكاد تكون أخطر من الخيانة العمدية.
-كَالهِرِّ يَحكي اِنتِفاخا صَولَةَ الأَسَدِ
ويبدو أن طبيعة هؤلاء البَبَّغاوات تعميهم عن حقيقة موقعهم، فبدل أن يُقيّموا أنفسهم بميزان الواقع، يعيشون في فقاعة افتراضية يُضخّمون فيها ذواتهم حتى ليحسبهم المارّة جمعا عظيما، وهم في الحقيقة قلّةٌ متناثرة، لا يجمعها سوى الجهل المشترك وحب الظهور. يتجمّعون على بعضهم في تعليقاتٍ متشابهة، ويُكرّرون نفس العبارات المبتذلة -أحيانا منسوخةٍ حرفيا من ردود ذكاءٍ اصطناعي- ويُولّدون ضجيجا صوتيا يوهم الآخرين -وبالأحرى يوهمون أنفسهم- بأنهم كثرةٌ ذات تأثير.
لكن هذه الصولة الأسدية الموهومة لا تلبث أن تنهار بمجرد خروجهم من شاشاتهم، حين يعودون إلى واقعهم في العمل أو الأسرة، فيرجعون كالهررة التي بلا وزن حقيقي، ولا صوت مسموع، ولا مكانة كالتي يتصورونها لأنفسهم. وفي هذا التناقض الصارخ بين الصورة المزوّرة في الفضاء الرقمي، والحقيقة الهزيلة في الحياة الواقعية، ينشأ لديهم ما يُشبه صراع التنافر المعرفي: بين نظرتهم لأنفسهم وحقيقتهم الذاتية.
وبدل مواجهة هذا التناقض بالتأمل أو التغيير، يختار أغلبهم الهروب الأعمى -مُجدّدا- إلى عالم المواقع الاجتماعية، حيث يلجأون لبرامج الذكاء الاصطناعي لتُعيد لهم شعور العبقرية الذي يفتقدونه في حياتهم الطبيعية، فتكتب لهم مثلا منشورا عن الأزمة الوجودية في العولمة، أو الدين في عصر ما بعد الحداثة، ليجدوه جاهزا في ثوانٍ، فينشره أحدهم وكأنه ثمرة تأملٍ ليليٍّ عميق! إنها حالةٌ أقرب ما تكون إلى إدمان المخدرات: فكل نقرة إعجاب، وكل تعليقٍ يغمر أحدهم بلذّةٍ وهميةٍ قصيرة الأمد، تدفعه للعودة مرارا إلى هذا العالم الافتراضي، حتى لو كان على حساب عائلته، أو عمله، بل وصحته النفسية أيضا. وهكذا يتحول الفضاء الرقمي إلى ملهى الهروب الأبدي من واقعٍ لم يعد بإمكانه مواجهته.
-وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ
في المقابل، لا يعني ذلك أن كل من يكتب على المواقع الاجتماعية جاهل أو دعي؛ فهناك خبراء حقيقيون ينشرون بوعي وتحقق، لكن أصواتهم تُغرق في ضجيج المحتوى الرخيص، لأن الخوارزميات لا تميّز بين الحكمة والهراء، بل تُفضّل ما يثير التفاعل، بغضّ النظر عن دقّته أو نفعه.
ومع ذلك، فإن قول الله تعالى: “وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ” يظل علامة أملٍ وثقةٍ في أن الحقيقة لها وزنٌ لا يزول. فالضجيج عابر، والهراء يذبل، لكن الكلمة الموزونة، والرأي المؤسّس على برهان؛ كل ذلك يبقى، ويُثمر، ويُورث.
-الوحدة 8200 الصهيونية
لقد ازدادت ظاهرة البَبَّغَاء الإلكتروني مع انتشار ثقافة الشخصية المؤثرة، حتى صار هدف كل عاطلٍ أن يُحسب له صوت، ووهم كل جاهل أن يُنظر إليه كمرجع. ومع اندلاع حرب طوفان الأقصى، ارتفعت متابعة جماهير واسعة من العالم العربي لمنصات التواصل الاجتماعي تتبعا لأدق تفاصيل المقاومة، وهو ما مثل أرضا خصبة لكل بَبَّغَاء إلكتروني ليتسلل وسط الصفوف.
فقد كشفت تلك المعركة أن الحروب لا تُدار بالبنادق وحدها، بل بالمنشورات المولّدة آليا، والتحليلات المفبركة، والشائعات التي ترتدي عباءة الوعي. وقد استغل العدو الصهيوني هذا البَبَّغَاء الإلكتروني كظاهرةٍ مزدوجة الوجه: من الداخل هو بَبَّغَاء يلهث خلف الظهور؛ ومن الخارج هو مطيةٌ رقميةٌ تُسخّرها الوحدة 8200 الصهيونية لتشويه المقاومة، وتفتيت الوعي الجمعي، ونشر الفتنة تحت غطاء النقد الحر.
وبين هذين الوجهين -وجه الهروب الذاتي ووجه التوظيف الاستخباراتي- يختفي الإنسان، ويظهر فقط الصدى: صدى التكنولوجيا الحديثة، وصدى العدو المتربص، وصدى الوهم الذاتي.
لقد وجدت الوحدة 8200 الصهيونية -الذراع السيبرانية للاحتلال- في البَبَّغَاء الإلكتروني أداة مثالية: شخصا يفتقر إلى التأهيل، لكنه يمتلك شغفا بالظهور وسذاجة تجعله عرضة لابتلاع أكاذيب تُقدّم بقالب الحقيقة. فتم تزويده -عبر حسابات وهمية أو مراكز أبحاث زائفة- بتسريبات مفبركة، وخرائط مزيّفة، وأقوال منسوبة زورا لقادة المقاومة، كل ذلك مُولّد بخوارزميات ذكاء اصطناعي. ثم ينشره هذا البَبَّغَاءُ على صفحته بحماسٍ، ظانا أنه يُقدّم خدمة للحق، بينما هو في الحقيقة يُكرّس رواية الاحتلال، وينسف وحدة الموقف الشعبي، ويجعل من نفسه صدى مجانيا لأجهزة استخبارات معادية.
فكم من بَبَّغَاء أحمق ادّعى أن القادة هربوا خارج القطاع، أو أن المقاومة تتاجر بالشهداء، بناء على مصدرٍ موثوق تبيّن لاحقا أنه حساب يبث من تل أبيب؟
وقد تأكّد ذلك عمليا عندما كشفت أدوات التحقق من الحسابات -بما في ذلك تحليل مواقع النشر عبر منصة إكس (تويتر سابقا)- عن مئات الحسابات التي تبث من داخل الأراضي المحتلة، وكانت تُولّد خلال الحرب روايات مضلّلة بتنسيق يوحي بالموضوعية، ليتلقفها الآلاف من البَبَّغَاوات ويعيدوا تداولها كأنها وقائع ميدانية.
هنا، يظهر الخطر الأعمق: فالاحتلال لم يعد بحاجة إلى جنود كثر في ساحات القتال الرقمي، بل إلى جحافل من البَبَّغَاوات، يدفعهم وهْم المعرفة إلى أن يكونوا وقودا لحربٍ نفسيةٍ ضد شعبٍ يقاوم. وهكذا، يتحول الدفاع عن فلسطين -الذي كان يوما قضية أخلاقية واضحة- إلى ساحةٍ مشوّشةٍ بالتناقضات، يملؤها الضجيج، وتنقصها الحقيقة، بفضل من يحسبون أنهم يفكّرون، بينما هم في الحقيقة بعض الحمقى الممتلئين بالهراء.
-المعرفة علم ومنهج
فالمَخرج من كل ذلك الهراء لا يكمن في رفض منصات السوشيال ميديا أو الذكاء الاصطناعي، بل في تربية الذوق المعرفي العام على التمييز بين ما يُضخّم وما يُثمر، وبين ما يُلهي وما يُنير. فالمجتمعات التي تحترم خبراءها، وتدعم عقولها، وتُثابِت على قيم العلم والصدق، هي وحدها القادرة على أن تحصن نفسها من قبضة الانفلات المعرفي، وأن تجعل الفضاء الرقمي مرآة للعقل لا للهذيان.
لذا، فإن التحدي الحقيقي ليس في إسكات الأصوات، بل في تزويد الجمهور بأدوات التمييز. يمكن أن يبدأ هذا من خطوات بسيطة: التوقّف قبل المشاركة، والسؤال عن مصدر المعلومة وهدف ناشرها، والبحث عن التغطية المتعددة للأحداث من جهات مختلفة. على مستوى أوسع، فإن دمج التربية الإعلامية والرقمية في مناهج التعليم، ودعم مبادرات التحقق من الحقائق، ومطالبة المنصات بشفافية أكبر في عمل خوارزمياتها، هي إجراءات ضرورية. في هذه المعركة، يكون وعي المستخدم هو الخط الأمامي، ومعرفته هي السلاح، وتريثه هو الدرع.
فالحرية لا تعني الفوضى، والبحث عن الذات لا يبرر السفسطة ونشر التراهات، وقد حذرنا الله سبحانه وتعالى من ذلك فقال: “وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ”. البَبَّغَاءُ الإلكتروني، إن كان صادقا مع نفسه ويخاف الله؛ فلن يهرف بما لا يعرف، بل سيُقرّ بحدوده، ويسعى للتعلّم قبل أن يُعلّم. أما إن كان يبحث فقط عن إشباعٍ مَرضي، ومجدٍ وهمي، فسيظل صوته -مهما ارتفع، ومهما انتشر- زبدا وسيذهب جفاء.
- مصطفى خضري






