معلوم ان تركيا هي اول دولة اسلامية اعترفت باسرائيل اعترافا كاملا عام 1949، ومنذ عام 2003 أصبح طيب رجب اردوغان السياسي التركي الأكثر شعبية داخليا والاعلى مكانة دولية في الحياة السياسية التركية المعاصرة، وعرفت فترته تأرجحا في العلاقة بين بلاده واسرائيل، لا سيما ان إتكاءه السياسي على المرجعية الدينية منحه مساحة شعبية واسعة من ناحية لكنه ضيق عليه من ناحية ثانية النزعة البراغماتية التي يتبناها سياسيا.
لقد انتهج أردوغان سياسة براغماتية تجمع بين المتناقضات وبقدر من المرونة والتكيف الحذر ، ويتضح ذلك في أنه لا يعادي روسيا بحدة رغم عضويته في الناتو ، ويتبنى الفكر الاسلامي مع اعترافه وزياراته لاسرائيل ولهفه على الانضمام للاتحاد الاوروبي المسيحي ، ويتفق مع امريكا في بعض سياساتها رغم قلقه من المساندة الاسرائيلية والامريكية للنزعات الانفصالية الكردية عنده او في الاقليم، كل ذلك جعله يتخذ القرار ثم ينفذه بكيفية براغماتية لا لُبس فيها.
واي استعراض للعلاقة الاسرائيلية التركية خلال وصول اردوغان للسلطة (كرئيس وزراء 2003-2014 او كرئيس من 2014- الآن) منذ اقل من ربع قرن تقريبا، تشير الى ان الاشكالية المركزية في دبلوماسية اردوغان مع اسرائيل هي في كيفية التوفيق بين نزعته الاسلامية- ذات المضمون الاخواني – التي استثمرها شعبيا للوصول للسلطة وبين انحيازاته السياسية بقدر لا يرضى عنها جمهوره الاسلامي الداخلي والخارجي بالقدر الكافي. وهنا تبرز ملابسات سياساته الدولية على النحو التالي:
أولا: منذ اواخر التسعينات من القرن الماضي كان التعاون الامني والاستخباراتي بين اسرائيل وتركيا متواصلا، لكن حادث الاعتداء الاسرائيلي على السفينة التركية المتجهة لمساعدة انسانية لغزة (2010) غير الجو السياسي بين الطرفين،ودفع تركيا الى اتخاذ إجرائين هما تخفيض(لا قطع) العلاقات الدبلوماسية مع اسرائيل أولا ، والاعتراض التركي على العلاقات بين اسرائيل والناتو ثانيا ،لكن العلاقة اعيدت بين الطرفين التركي والاسرائيلي عام 2022 الى وضعها الدبلوماسي التام، وما ان وقع طوفان الاقصى 2023 حتى عاد أردوغان لهجماته اللفظية على اسرائيل مستثمرا النزوع الاسلامي الشعبي من ناحية ،وللرد الضمني على القوى الحزبية (بخاصة حزب الرفاه الاسلامي الجديد) التي انتقدت موقف تركيا في غزة واعتبرته غير كاف.
ثانيا: عاد اردوغان للتصعيد مع اسرائيل بعد انتكاساته في الانتخابات المحلية في العام الماضي-2024- وخسارته معاقل تقليدية لحزبه، وتتضح العودة الأردوغانية في قرارات حكومته الاخيرة(قبل ايام) بقطع العلاقات التجارية والدبلوماسية مع اسرائيل واغلاق الموانئ امام السفن الاسرائيلية ومنع السفن التركية من التوجه لموانئ فلسطين المحتلة وكذلك الحال في مجال الطيران المدني ، لكن هذه القرارات راجت حولها تأويلات بانها لا تشمل النقل الذي فيه مسئولين حكوميين او تحمل سلاحا ومواد عسكرية فقط، وهو امر يضعف القرار إنْ صح ما تسرب من معلومات، بخاصة ان عدد الاسرائيليين الذين زاروا تركيا عام 2024 تجاوز ثلاثة ارباع المليون مقابل بضعة آلاف من الاتراك زاروا اسرائيل، وهو الامر الذي تشتم براغماتية اردوغان دلالاته.
ثالثا: اشكاليات تواجهها براغماتية أردوغان:
أ- ماذا عن خط الانابيب الناقل للنفط الأذري الى اسرائيل عبر ميناء جيهان التركي، ومعلوم ان السند الاول لتركيا في صراعها مع ارمينيا او تنافسها مع ايران هي تركيا، كما ان أذربيجان هي الدولة الاعمق علاقة مع اسرائيل في غرب آسيا بما فيها القفقاس، فكيف يوفق اردوغان بين علاقته القوية مع اذربيجان وعلاقة اذربيجان القوية مع اسرائيل؟ فأذربيجان توفر 30% من حاجة اسرائيل النفطية، وهو ما سيجعل من اذربيجان عامل كبح للموقف التركي، وسيعمل على استمرار دور ميناء جيهان التركي لصالح اسرائيل، ولعل الحوار الذي نظمته أذربيجان بين اسرائيل وتركيا في ابريل 2025 مؤشر على مستقبل هذا الموضوع.
ب- شكل مشروع “منتدى غاز شرق المتوسط” المدعوم من الولايات المتحدة مثار قلق لتركيا، فالمنتدى يجمع بين قبرص واليونان واسرائيل فقط بينما ترى تركيا نفسها من ذوي العلاقة بغاز المتوسط وبشكل كبير،وهو ما يعني ان اسرائيل يمكن لها ان تقايض موقف اردوغان من غزة بالسعي لضم تركيا الى المنتدى.
ت- عندما قطع اردوغان علاقاته التجارية باسرائيل في المرة الاولى، تبين انه جرى تحايل على هذه الخطوة من خلال طرف ثالث، فبدلا من ان تصل البضائع التركية الى اسرائيل مباشرة اصبحت تذهب لسوق ثالث(وبخاصة السوق اليوناني او القبرصي او سوق السلطة الفلسطينية ) ليقوم الطرف الثالث باعادة نقلها للسوق الاسرائيلي ،وهو ما يعني ان العلاقة التجارية زادت فقط خطوة الطرف الثالث، علما ان حجم الصادرات التركية لاسرائيل العام الماضي بلغت 2.86 مليار دولار، بينما الواردات التركية من اسرائيل تصل الى 596.1 مليون دولار(طبقا لاحصاءات الامم المتحدة) .
ث- من الصعب اعتبار الموقف التركي من اسرائيل نتيجة الموقف في غزة فقط ، فهناك مواضع احتكاك بين الطرفين في مواضع عدة:
1- النفوذ في سوريا لاعادة تشكيل الخريطة الداخلية السورية بما يتناسب مع تركيا او اسرائيل، فتركيا تريد منع الاكراد او الدروز من تقسيم سوريا ، نظرا لان نجاح تقسيم سوريا ستمتد آثاره الى تركيا ذاتها رغم التصالح مع حزب العمال الكردستاني التركي مؤخرا ، يقابل ذلك خطة جدعون ساعر وزير الخارجية الاسرائيلي الحالي التي عرضتها اكثر من مرة منذ 2010 لتقسيم سوريا، والتي تستهدف تقسيم سوريا لاربعة دول وجعل الجزء الجنوبي دولة عازلة بينها وبين بقية سوريا. ويلاحظ هنا أن حكومة هيئة تحرير الشام بعد تولي السلطة في سوريا تحاول التوفيق بين مصالح اردوغان ومصالح نيتنياهو ،وكأنهم ينقلون نموذج البراغماتية الاردوغانية، وتؤيدهم الولايات المتحدة- منبع البراغماتية- في هذا المسعى.
2- التنافس التركي الاسرائيلي على الطريق التجاري بين آسيا واوروبا: طرحت الهند مشروع ما يسمى “الممر الاقتصادي الاوروبي الهندي(والذي يعبر المحيط الهندى والخليج العربي باتجاه اسرائيل ثم اوروبا عبر المتوسط) بينما تشجع تركيا مشروع “طريق التنمية” الذي يمر من الاسواق الآسيوية باتجاه اوروبا عبر تركيا ، وقد زادت اهمية هذا المشروع بعد تعرض الطريق التجاري عبر البحر الاحمر وقناة السويس لتراجع حاد بسبب موقف انصار الله، ويبدو ان تركيا تحاول ربط سوريا والعراق بها لضمان السلام على طريقها المقترح،وهو ما تعتبره اسرائيل ضارا بها. لكن الاشكال في ذلك هو ان ايران قد تكون احتمالات استفادتها من المشروع التركي أكبر بخاصة بعد القلق الايراني من تداعيات ممر زنغزور الواصل اذربيجان باقليم نخجوان الأذري ،وهو مشروع تسانده الولايات المتحدة لان فيه ضرر لايران التي اعلنت رفضا قاطعا لهذا المشروع الذي لا يتجاوز طوله 43 كيلومترا عبر الاراضي الارمينية ، فهو يؤثر على طرق ايران التجارية ويعزز التطويق الغربي لها.
3- تشعر الدبلوماسية التركية ببعض الاضطراب في علاقاتها مع ايران، فهناك مجموعة من الجوانب تجمع البلدين سواء اقتصادية(مثل بعض الممرات التي اشرت لها) والموقف الناقد لاسرائيل ولو بموقف متقدم من ايران على تركيا في هذا الشأن لكن تنافسا صامتا يظهر بين الحين والآخر في العلاقات مع القوى الدولية او في مستوى العداء لاسرائيل او امريكا او في موضوع اذربيجان بل وحتى في محاولات توظيف المتدادات الثقافة الرعية لكل منهما في آسيا الوسطى والقفقاس، ولعل هذا يشكل هامشا ضيقا لاردوغان لتوظيف براغماتيته فيه.
لا شك ان اي تراجع نسبي او كبير في العلاقات التركية الاسرائيلية يشكل مكسبا فلسطينيا، لكن الضرورة تقتضي ادراك ان اردوغان يعمل مخلصا لمصلحة بلاده ، ولا يتورع عن التفسير الديني لاي قرار يتخذه مع اسرائيل طبقا لمصالح تركيا وليس العكس ، وهو الدرس الذي يجب ان تفهمه الحركة الدينية العربية المعاصرة في علاقاتها مع اردوغان وحزبه “العدالة والتنمية”، فاردوغان له حضور عسكري في العالم العربي في قطر وليبيا وسوريا والعراق وفي القرن الافريقي، لكنه يضمن ان لا تثير الحركة الدينية العربية هذا الحضور مقابل دعمها ماليا ، بينما لا يرى ضيرا في تشجيع اثارتها للحضور الايراني .
الخلاصة: تتباين اسرائيل مع تركيا بشكل واضح في الموقف من فلسطين وسوريا ، لكنهما تتوافقان في العلاقة مع اذربيجان ، وبينهما بعض التوافق وبعض التباين تجاه مشاريع الغاز في المتوسط، وتجاه الممرات ا لتجارية الآسيوية الاوروبية وتجاه الموقف من بعض الحركات الاسلامية ، ويبدو المجتمع التركي اكثر عداء لاسرائيل من عداء المجتمع الاسرائيلي لتركيا (طبقا لاستطلاعات الراي)..ولعل كل ذلك يفسر ضرورات البراغماتية الاردوغانية.
