التاريخ النفسي:حين يكتب اللاوعيُ سرديّةَ الأمم:

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

ليس التاريخ، في جوهره الأعمق، دفاترَ للحروب وصعود الإمبراطوريات فقط، بل هو قبل ذلك وبعده تاريخٌ للطفولة الخفيّة التي ربّت الجماعات وشكّلت خيالها الجمعي ونسجت طبقات لا مرئية من انفعالاتها. إنّ ما سمّاه الباحثون التاريخ النفسي ليس إلا محاولةً جريئة لاستعادة ذلك الصوت المقموع في السجلات التقليدية: صوتُ اللاوعي الجمعي، وجراح الطفولة التي بقيت تتردّد في هياكل السياسة والاجتماع حتى اليوم.

فعلى خلاف المؤرخ التقليدي الذي يقرأ الماضي عبر الوثائق والوقائع، ينظر التاريخ النفسي إلى الأمّة كما ينظر الطبيب إلى الروح: يبحث عن الظلال، عن الخوف الطفولي المختبئ تحت جلود الشعوب، عن الأمّ التي كانت قاسية فصار الأبناء مقاتلين، وعن الأب الذي غاب فصار الوطن كلّه يبحث عن سلطة بديلة.
إنّه علمٌ يرى أن الحروب ليست دائماً نزاعاً على الموارد، بل قد تكون إعادة تمثيل لجرحٍ بدائي، وأن العنف العام ليس إلا صدى لصرخةٍ لم تُسمع في مهدها.
إنّ مرايا التاريخ النفسي لا تُظهر الملوك والقادة فقط، بل تُظهر الطفل الذي كانوا عليه: ذلك الفتى الذي مُنع من الخوف فصار tyrant، وتلك الفتاة التي لم تُعانَق فكتبت شعوبها تاريخاً من الحنين القاسي. فالتاريخ، بهذا المعنى، هو رحلةٌ طويلة من محاولات الأمم تعويض نقصها، ترميم خوفها، أو إعادة إنتاجه في أشكال أشدّ حدّة.
ويذهب التاريخ النفسي أبعد من تحليل الفرد، ليقرأ السير النفسية للشعوب. فهو يفتّش في لغتها، في استعاراتها، في أناشيدها، في مفردات الغضب والخلاص التي تتكرر في خطابها العام، ليكشف كيف يُعاد تدوير اللاوعي الجماعي عبر وسائل الإعلام والسياسة.
وحين يشتدّ الضجيج السياسي في دولة ما، يجد التاريخ النفسي نفسه أمام طفل مذعور أكثر مما يجد أمام شعبٍ ناضج؛ طفلٍ يلوّح بالراية لأنّه لا يملك الكلمات، أو يختبئ خلف زعيمٍ قوي لأنّ صورة الأب في داخله ما تزال مكسورة.
في قلب هذا الاتجاه تتربّع الطفولة، لا باعتبارها مرحلة زمنية، بل بوصفها جوهرَ تكويننا العميق. فكيف تربى الأطفال عبر القرون؟
ما الذي صنع قسوة العصر الوسيط؟
وما الذي جعل شعوباً تحتفي بالانضباط حتى الألم، وشعوباً أخرى تنوء تحت ثقل الذنب الديني؟
وكيف انتقلت البشرية من قبول التضحية بالطفل—كما تشير رموز الثقافات القديمة—إلى اعتبار الطفل مركز القداسة الأخلاقية؟
إنّ التاريخ النفسي يقرأ هذه التحولات بوصفها علامات على تطوّر الوعي البشري ذاته، وعلى الصراع الطويل بين الأب القاسي والأم الحامية في بنية الحضارات.
ولعلّ أهمّ ما يقدّمه هذا النوع من البحث هو إعادة الاعتبار إلى الجرح الأول. فالأمم، مثل الأفراد، تتصرّف كثيراً بفعل ما لم تُداوِهِ بعد.
دولةٌ حملت ذاكرة استعمارٍ قديم قد تُفرط في الدفاع عن حدودها.
أمّةٌ نشأت على الخوف قد تعيد إنتاج الطغيان بوصفه ضمانةً نفسية.
وجماعةٌ تعرّضت للإذلال قد تلجأ إلى العنف لتستعيد صورة الذات المكسورة.
وما بين فرويد الذي رأى الحضارة بنيةً تُنتج الكبت، ورايش الذي قرأ الفاشية كمرضٍ جماعيّ الجذور، يتشكّل هذا الحقل المعرفي كجسرٍ بين التحليل النفسي والسياسة، بين الأسرة والدولة، بين الرضيع والإمبراطورية.
التاريخ النفسي، إذن، ليس إعادة كتابة للماضي، بل إعادة قراءة للإنسان.
هو محاولة لاصطياد اللحظة الأولى التي وُضع فيها الحجر الأول في جدار الخوف، اللحظة التي تعثّرت فيها الروح فتعثرَت وراءها أمّةٌ بأكملها.
إنه دعوة لنعرف أنفسنا، لا كما نقول عنها، بل كما أضمرناها منذ البدء.
وحين ننجح في ذلك، قد نكتشف أنّ التاريخ، في أعماقه، لم يكن كتاباً عن العالم، بل كان دائماً كتاباً عنّا.