التاريخ بين الذاكرة والسلطة: نحو تأريخ نقدي محرِّر

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

_التاريخ والتأريخ: بين الحقيقة وسلطة السرد:
التاريخ هو مسرح الوجود الإنساني بكل صراعاته وتحولاته، بينما التأريخ هو محاولة الإنسان القبض على هذا المسرح بالكلمة والسرد. قال هيغل: “ما نتعلمه من التاريخ أنّنا لا نتعلم من التاريخ شيئاً”. هذا القول يكشف مأزق العلاقة بين الماضي ووعيه، فبينما يظل التاريخ حياً ومتدفقاً، فإنّ التأريخ يظل محكوماً بالانتقاء والتأويل والسلطة.
وقد أشار بول ريكور في الزمن والسرد إلى أن كل كتابة تاريخية هي “إعادة تخييل”، أي أن المؤرخ لا ينقل الواقع بل يعيد بناءه وفق رؤيته للعالم وموقعه من المعرفة والسلطة.
_من هيرودوت إلى توسيديديس: البذور الأولى للعقل التاريخي:
حين كتب هيرودوت تاريخه، كان يدوّن أحداث الشعوب وأسطورتها، لذلك وصفه شيشرون بـ”أبي التاريخ”. أما توسيديديس، فقد رفض الخيال الملحمي ودوّن حرب البيلوبونيز بروح نقدية عقلانية. لقد أدرك أن التاريخ ليس زخرفةً بل وعياً سياسياً وإنسانياً، فقال: “كتبت عملي لا ليُقرأ لمرة عابرة، بل ليبقى كنزاً إلى الأبد”.
هذا ما جعل هوبز يراه “أعظم مؤرخ سياسي”، لأنه جعل من التاريخ أداةً للتفكير في طبيعة الإنسان، لا مجرد أرشيف للوقائع.
_سلطة المؤرخ: بين الادّعاء والحياد المستحيل:
لم تكن الكتابة التاريخية يوماً بريئة. فكما قال ميشال فوكو: “الحقيقة لا تنفصل عن السلطة، بل تُنتَج عبرها”. المؤرخ يمارس سلطة خفيّة، يختار ويؤوّل ويحذف، ليغدو ما يرويه “إضاءة للكينونة داخل اللغة” على حد تعبير هايدغر.
أما نيتشه فقد ذهب أبعد حين حذّر في كتابه في منفعة ومضرة التاريخ للحياة: “الحياة تحتاج إلى النسيان أكثر من حاجتها إلى الذاكرة”. بهذا يتبدّى أن التأريخ ليس مرآة محايدة بل ممارسة تحمل في طياتها خطراً مضاعفاً: خطر التقديس وخطر التزييف.
_من سرد الوقائع إلى تاريخ الذهنيات:
القرن العشرون شكّل منعطفاً في الوعي التاريخي بفضل مدرسة الحوليات الفرنسية. فرنان بروديل لم يرَ التاريخ في “الحدث السريع”، بل في البنيات الاقتصادية والثقافية الممتدة عبر المدى الطويل. قال جاك لوغوف: “المؤرخ لا يكتب ما جرى فحسب، بل ما كان يمكن أن يجري في وعي الناس وذاكرتهم”.
تاريخ الذهنيات كشف أن المهم ليس ما فعله الناس فقط، بل كيف فكروا فيه، كما شدد جورج دوبي. هنا يصبح التاريخ أقرب إلى علم اجتماع الذاكرة، لا مجرد سجل للملوك والمعارك.
_التأريخ كأفق تحرري:
في زمن ما بعد الحداثة، لم يعد التأريخ مجرد حفظ للماضي، بل ممارسة أخلاقية لكشف المسكوت عنه. والتر بنيامين لخص هذا ببلاغة حين قال: “المؤرخ النقدي هو من يمشّط الماضي بعكس اتجاه الشعر”. أي أنه يفتش عن صوت المهزوم والمنسيّ.
أما إدوارد سعيد فشدد على أن “المؤرخ الحقيقي لا ينتمي إلا للحقيقة، لا للنظام، ولا للجماعة، ولا للبطولة، بل للإنصاف”. ومن هنا يغدو التأريخ شكلاً من أشكال العدالة الرمزية، ووسيلة لتحرير الذاكرة من قبضة السلطة وإعادتها إلى أصحابها.
_ خاتمة: التاريخ بوصفه سؤالاً مفتوحاً.
التاريخ ليس مجرد وقائع منتهية، بل سؤال دائم حول الحقيقة والمعنى. وكما قال سارتر: “الحرية هي ما نفعله بما فُرض علينا”. فإن فعل التأريخ هو حرية مضاعفة: أن نعيد صياغة ما فُرض علينا من الماضي، لا لنمجّده، بل لنفهمه ونحرّره من أغلال التزييف. وهكذا يصبح المؤرخ شاهداً مزدوجاً: شاهداً على الماضي، وشاهداً على حاضره هو، في مواجهة كل سلطة تريد أن تحتكر الذاكرة.