التافهون… صعودُ الآلهة الزائفة في زمنٍ بلا ذاكرة:

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

 

في الأزمنة التي يتراجع فيها المعنى، وتُختصر القيم في لحظات عابرة بلا ظلّ، يظهر ما سمّاه عبد اللطيف اللعبي قبل أربعة عقود بـ “التافهون آلهة اللحظة”، وكأنّه كان يقرأ مستقبلاً لم يأتِ بعد، مستقبلًا ستفيض فيه المنصات بالضجيج، وتغدو السطحيّة قانونًا لا يُقاوَم، ويُصبح الفراغُ نفسهُ مادةً خصبة للتأثير.
لم يكن اللعبي يتحدث عن وسائل التواصل الاجتماعي، ولا عن ثقافة “الترند”، بل عن آليةٍ نفسية واجتماعية تتكرّر عبر التاريخ:
حين ينسحب العقل إلى الخلف، يتقدّم التافهون إلى الواجهة،
وحين يخفت الضوء عن الطاقات العميقة، تلمعُ الفقاعات لحظةً ثم تتلاشى…
لكنها في لحظتها تلك، تفرض سلطانها على المشهد.
التافهون آلهة اللحظة لأن اللحظة نفسها تافهة:
بلا امتداد،
بلا جذور،
وبلا مسؤولية.
إنهم وُلدوا من رحم الزمن الفوري، حيث يُقاس الوعي بعدد المشاهدات، لا بعمق الأفكار؛
وحيث يختلط الصخب بالحكمة، فيربح الصخب لأنه أعلى صوتاً وأكثر صبراً على الفراغ.
في هذا العالم، يصعد من يملك اللحظة لا من يملك القيمة.
فاللحظة سريعة، مبهرة، مباغتة…
وتمنح شرعية مؤقتة لأولئك الذين لم يمرّوا يوماً باختبار عمق،
ولم يعرفوا للعقل محنة،
ولا للفكرة مخاضًا،
ولا للمعنى ثمنًا.
يُعطيهم الزمن الحالي سلطاتٍ لا يستحقونها:
سلطة التأثير،
وسلطة تشكيل الذوق العام،
وسلطة التطاول على المساحات التي كان ينبغي أن تُحمى من العبث.
إنهم لا يملكون أدوات البناء،
فيستعيضون عنها بأدوات الضجيج،
ولا يملكون لغة الفكر، فيغرقون الناس في لغوٍ يُشبه الطَّحْنَ في الهواء.
لكن الأخطر ليس صعودهم، بل تراجع القامات التي كان يمكنها أن تُوازِن الكفّة؛ فحين ينسحب أصحاب الرأي، تتقدم جيوشُ الثرثرة،
وحين يسكت العقل، يعلو صوت الخفة.
لقد تحوّل التافهون إلى آلهةٍ لأن الزمن هو الذي صنع عروشهم،
عروشًا تقوم على رمال التفاعل السريع، وتنهار عند أول سؤالٍ جاد،
أو أول محكٍّ يحفر في العمق.

وما يعنينا اليوم ليس مقاومتهم،
بل حماية الوعي من أن يصبح شريكاً في صناعة هذه الآلهة الزائفة.
فاللحظة، مهما كانت مُغرية،
لا ينبغي أن تتحوّل إلى معيار،
ولا السطحية إلى مرجع،.ولا الضجيج إلى حكمٍ على القيمة.
إن استعادة المعنى تبدأ من استعادة الزمن، وتذكير الروح بأن أعظم الأشياء لا تُقاس بسرعة الظهور، بل ببطء التشكل، وبهدوء الذين يُثمرون على مهل، وبصمت الذين يعرفون أن العُمق لا يحتاج إلى صخب كي يُسمع.
وهكذا، لا يبقى للتافهين سوى. لحظتهم…
وللحظةِ أن تنطفئ.