المؤكد أن إسرائيل اليوم ليست نفسها قبل بداية حربها على غزة، فقد خسرت كثيراً مما كانت تروجه عن نفسها، وما كانت تراهن على تحقيقه، خصوصاً بعد صفقة القرن والسلام الإبراهيمي وتراجع الحديث عن حل الدولتين. فقد انتاب الحكومة اليمينية المتطرفة برئاسة نتنياهو حالة من الغرور بأن دولة إسرائيل وجيشها الأقوى في المنطقة، والأكثر أخلاقية في العالم وأن الرواية اليهودية لا يمكن التشكيك بها، وفي مقابل حالة الضعف والانقسام الفلسطيني.
كل شيء تغير بعد السابع من أكتوبر
إسرائيل اليوم منبوذة عند كثير من شعوب ودول العالم ومتهَمة بارتكاب جريمة الإبادة البشرية والتطهير العرقي، وجيشها متهم دولياً بأنه الأكثر إجراماً بحق الأطفال، وقادتها مطلوبون من محاكم دولية لارتكابهم جرائم حرب، والرواية اليهودية الصهيونية تتراجع حتى في أمريكا، حيث هناك يهود يستنكرون ممارسات إسرائيل ويتبرأون من ممارساتها وروايتها حول الحرب، وفي داخل إسرائيل بداية صراعات داخلية، ومواقف معارضة لتوجهات الحكومة اليمينية، ومظاهرات تطالب بإقالة نتنياهو وإسقاط الحكومة، وهناك توتر في علاقة إسرائيل بكثير من دول العالم حتى مع حلفاء تقليديين، وعدد الدول التي تعترف بحق الفلسطينيين بدولة يتزايد مع مرور الأيام.
كل ما سبق يمكن إدراجها كخسائر أو نسميها “هزائم” استراتيجية بعيدة المدى، لأنها إلى الآن لا تهدد وجود الدولة، ولا تهدد استمرار العلاقة الاستراتيجية بين دولة إسرائيل وواشنطن وغالبية دول حلف الأطلسي، بل حتى لم تهدد أو تضعف علاقتها مع الدول العربية المطبعة، واحتمال أن تضاف إليها السعودية، دون تجاهل أن اقتصاد الاحتلال ما زال متماسكاً.
فهل يمكن اعتبار كل ما سبق نصراً لفلسطين والمقاومة التي تقودها حركة حماس؟
فشل كل جهود المصالحة
قبل الإجابة دعونا نستعرض المشهد والواقع الفلسطيني ميدانياً وسياسياً:
كان يفترض أن تؤدي الحرب الى توحيد الفلسطينيين، وتجاوز الانقسام السياسي، خصوصا أن الحرب هي على حماس وفصائل المقاومة في غزة وعلى السلطة ومنظمة التحرير في الضفة، ولكن للأسف فشلت كل جهود المصالحة التي تركز على منظمة التحرير وحكومة وحدة وطنية حتى في جولاتها الأخيرة في موسكو وبكين، وما زال التراشق الإعلامي والاتهامات المتبادلة، وقد تزايدت بعد تصريحات موسى أبو مرزوق وخالد مشعل الأخيرة، ورفض حركة حماس أي وجود للسلطة الفلسطينية في غزة. أيضاً ما زالت الحالة العربية الرسمية والشعبية تنأى بنفسها عما يجري، وكأن الحرب في قارة أخرى ، وعلاقة كل الأطراف الفلسطينية متوترة مع المحيط العربي، وكأن النظام الرسمي العربي ينتظر حسم إسرائيل للمعركة بتصفية القضية الفلسطينية، وإراحتهم من الهم الفلسطيني أو على الأقل القضاء على حركة حماس. وكان من الممكن أن تتوقف الحرب في أيامها الأولى أو تجري بشكل أقل حدة وإجراما، لو اتخذت الدول العربية قراراً بقطع العلاقة مع إسرائيل أو على الأقل سحب سفرائها. كما أن الصمت العربي الرسمي والشعبي يضعف من قوة تأثير التحركات العالمية لنصرة الشعب الفلسطيني.
تدمير ٨٠% من المباني والبنية التحتية في القطاع
ميدانياً، تم تدمير ٨٠% من المباني والبنية التحتية في قطاع غزة، وقد اعترف القيادي الحمساوي خالد مشعل أن غزة قد دُمِرت، إضافة إلى سقوط أكثر من ٣٧ ألف شهيد، وأضعافهم من المفقودين والجرحى أغلبهم من الأطفال والنساء، وفصل شمال القطاع عن جنوبه، وإحداث مجاعة، وانتشار الأمراض والأوبئة، وعمليات تهجير ونزوح داخلي متكررة، بالإضافة إلى شبح التهجير خارج القطاع. والوضع في الضفة ليس بالأفضل حيث استغلت إسرائيل حرب غزة لتنفيذ خطة الحسم في الضفة التي وضعها المتطرف سموترتش عام ٢٠١٧ حيث يتوسع الاستيطان واقتحامات المسجد الأقصى والمدن والمخيمات، وتصفية كل من يتم الاشتباه به، كما تجري محاولات متسارعة لإضعاف السلطة وتصفية وجودها في الضفة.
كما تستمر عمليات المقاومة في القطاع ضد جيش الاحتلال وإن كان بوتيرة أقل من السابق، ولا مجال للمقارنة بين خسائر الفلسطينيين والإسرائيليين، حيث الخسائر في صفوف المدنيين والمقاتلين عند الفلسطينيين تفوق كثيراً الإسرائيليين، وكلما طال أمد الحرب خسر الفلسطينيون أكثر، ويبدو أن إسرائيل معنية بإطالة أمد الحرب لتحقيق الهدف الاستراتيجي منها وهو تصفية الوجود الوطني في الضفة، وإفشال حل الدولتين والتطهير العرقي والتهجير في غزة، وتغيير الوضع الجيوستراتيجي في القطاع بتكريس فصله نهائياً عن بقية الأراضي الفلسطينية، وقد تعمل على أن يكون القطاع أو الأجزاء الجنوبية منه مع أجزاء من سيناء أو جنوب الضفة كياناً سياسياً بديلاً عن حل الدولتين، وإسرائيل لا تمانع في استمرار وجود حماس بعد إضعافها في ما سيتبقى من القطاع.
الجبهات الأخرى والمصلحة الإيرانية
أما الوضع ميدانياً على الجبهات الأخرى، وكلها تابعة لمحور إيران الشيعي، ولا توجد أي جبهة سُنية، وكما كتبنا قبل ذلك في حروب ومواجهات ليس من أجل فلسطين وتحريرها بل محسوبة بدقة لخدمة المشروع الإيراني الفارسي، ومهما توترت الأوضاع على الجبهة الشمالية مع حزب الله، كما هو حاصل هذه الأيام فسيتم تدارك الأمر في آخر لحظة من خلال تفاهمات سرية مع طهران، أو بصفقة تؤدي لتهدئة في جبهة غزة، ونقولها بصراحة حتى لو اندلعت حرب بين إسرائيل وأذرع إيران في لبنان والعراق واليمن وسوريا فلن يستفيد الفلسطينيون من هذه الحرب، بل سيدفعون مزيداً من الأثمان بغض النظر عن الطرف الذي يدعي أنه انتصر، وسينتصر المشروع الإيراني الفارسي حتى لو أدت الحرب لمزيد من تدمير الدول العربية: لبنان والعراق واليمن وسوريا، وهو تدمير يصب في صالح إيران وواشنطن وإسرائيل.
وأخيراً، هل سنقيم مفهوم النصر والهزيمة اعتماداً على المشهد السياسي الأول، أم اعتمادا على ما يجري ميدانياً؟ وفي جميع الحالات فإن مصير ومستقبل القضية الفلسطينية لن تحسمه الحرب الحالية، بغض النظر عمن يدعي الانتصار، فغزة ليست فلسطين، وحركة حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني، كما أن الشعب الفلسطيني لم يفوض إيران ومحور المقاومة بالقتال نيابة عنه. ونكرر ما كتبناه سابقا بإن إسرائيل ستحقق غالبية أهدافها، وحركة حماس ستعلن الانتصار.
…..
يبدو أن إسرائيل معنية بإطالة أمد الحرب لتحقيق الهدف الاستراتيجي منها وهو تصفية الوجود الوطني في الضفة، وإفشال حل الدولتين والتطهير العرقي والتهجير في غزة، وتغيير الوضع الجيوستراتيجي في القطاع بتكريس فصله نهائياً .