الترامبية التطور الطبيعي للمكيافيلية

حميد قرمان

في الحرب الدائرة حاليا بين إيران وإسرائيل، لم يكن صوت أزيز الطائرات وقصفها، أو صوت إطلاق الصواريخ واعتراضها، هو المتحكم الوحيد في مسارها، بل كان هناك ما هو أقوى وقعًا من كل ما سبق: صوت الرئيس الأميركي دونالد ترامب وتصريحاته المتناقضة، التي سبّبت إرباكًا ليس فقط في مشهد الحرب، بل في داخل المسرح السياسي الدولي أيضًا؛ حيث تاه هذا المسرح بين التخوّف من اتساع رقعة الحرب، وغياب مسار دبلوماسي تفاوضي جاد، في ظل عدم وضوح الهدف من الحرب: هل الهدف القضاء على القدرات النووية والصاروخية الإيرانية أم الذهاب نحو المساهمة في تغيير النظام وتصفية رأسه؟

إن الجلبة التي سبّبتها تناقضات ترامب، وبقراءتها عبر مقاربات النظريات السياسية، تكشف حقيقة واحدة فقط: الخروج المتعمد عن القواعد المؤسسية والتقاليد الحاكمة للسياسة الأميركية في التعامل مع أزمات تمسّ مصالح واشنطن الإستراتيجية.

وبعيدًا عن شخصية ترامب وسلوكه المحبّ للنجومية، ونزقه السياسي الذي يجعل من كل حدث مدارًا يدور حوله، فقد نجح عبر إستراتيجية تعقيد مشهد الحرب الإسرائيلية – الإيرانية في تحقيق غايتين واضحتين:

الغاية الأولى: منح الطيران الإسرائيلي مدى أوسع ومساحة زمنية أطول لتنفيذ ضربات جوية ضد أهداف تُضعف من القدرات الإيرانية، حتى بلغ التدمير – وفق التصريحات الإسرائيلية – نحو 40 في المئة من بنك الأهداف المعلَن حتى لحظة كتابة هذا النص.
الغاية الثانية: تمرير فكرة التدخل العسكري الأميركي في مسار الحرب بوصفه ثمنا تفاوضيا مقبولا لدى المجتمع الدولي، قد تقبل به إدارة ترامب لاحقا مقابل منح نظام طهران طوق نجاة براغماتي يوقف نزيف شرعيته الشعبية، ويحمي استقرار أركانه أمام الشارع الإيراني.
إستراتيجية “التعقيد والإرباك” التي حرص ترامب على تثبيتها في مشهدي الحرب والتفاوض، وضعت سقوفا واضحة لجميع الأطراف، وما زالت الولايات المتحدة تتحكم بحدودها: فلا النظام الإيراني، ولا حكومة بنيامين نتنياهو، يملكان حرية التصعيد دون موافقة صريحة أو ضمنية من إدارة ترامب؛ تلك الإدارة التي روّضت الجانبين، وأثبتت للعالم أن قواعدها هي من ترسم بدايات الحرب… ونهايتها.

لقد أرست هذه الحرب تفوق المواقف السياسية لترامب على مواقف ائتلاف نتنياهو الحاكم، كما ظهر ذلك جليًّا قبل شهرين، حين استدعى رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى البيت الأبيض، وأجبره على دعم مسار دبلوماسي للتفاوض مع طهران، ثم منحه بعد ذلك الضوء الأخضر لتنفيذ خطط إسرائيل العسكرية لضرب العمق الإيراني، بما فيه من بنى نووية وصاروخية. ولم يكتفِ بذلك، بل مارس بنفسه جزءًا من الخداع التكتيكي، عبر تصريحات أربكت الجميع حول موعد الضربة الأولى.

واليوم، نرى استجداء النظام الإيراني للعودة إلى المسار التفاوضي قبل حدوث تدخل عسكري أميركي حاسم، وهو استجداء تُعبر عنه رسائل أُرسلت إلى عواصم القرار، في محاولة لقياس مدى استعداد واشنطن لفتح نافذة دبلوماسية من جديد.

نحن بحاجة – وبكل جدية – إلى قراءة جديدة ومعمقة لشخصية دونالد ترامب. فالعالم اليوم يبدو أنه أمام “ترامب جديد”، مختلف تمامًا عن نسخته الرئاسية السابقة: شخصية تُطوّر الميكيافلية الكلاسيكية من مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة” إلى فلسفة أكثر جموحًا عنوانها: “الترامبية”.. غايات الآخرين ووسائلهم تبرر وتخدم غايتي ووسيلتي.

عن العرب اللندنية