فلسفات كثيرة تُقال في التربية ومخرجاتها، ولا يزال علماء الاجتماع حائرين في الدور الذي تلعبه الفطرة (الجينات)، وبين الدور الذي تلعبه البيئة (العناصر المكتسبة)، ولم يستقروا على نظرية واحدة وشافية في العوامل التي تحدّد ملامح الشخصية وطبائعها، ويقفون متسائلين ويبحثون في تساؤلات كثيرة أهمها: كيف لإنسان يكون هادئ الطباع في صغره، يصبح عنيفاً في كبره، كيف يكون متسامحاً منفتحاً، ويصبح متشدّداً متطرّفاً، كيف يكون رقيق القلب ويصبح قاسياً، كيف يكون مطمئناً ويصبح إنساناً شكّاكاً، كيف يكون مؤمناً يؤدي الفروض كافة ويتحوّل إلى ملحد؟
وبقدر ما تبدو الأسئلة بسيطة وإجاباتها محسومة، بقدر ما هي معقّدة وإجاباتها نسبية ومفتوحة على احتمالات وسيناريوهات، حتى أن مقولة: مهما بذل الأهل والمربون والتربيون من جهد في الصغر، فإن الإنسان سيصبح حسب ما يحمل من فطرة وجينات ورثها من الأقربين منه، وقد لا يكون القريب قريباً جداً، إذ قد تأتي الطباع من الجد الخامس أو السادس أو العاشر، وأمام هذه الأحجية، وعدم انتباه الأهل لمسألة وراثة الطبائع، تنهض أسئلة عجيبة في محاولة إيجاد حلول: للشخصية غير المستقرة، للشخصية القلقة، للشخصية المتذمّرة، للشخصية الشكّاكة، للشخصية القاسية، الشخصية العاطفية، الشخصية الجريئة المغامرة، الشخصية المسالمة، الشخصية المؤمنة، الشخصة الملحدة، ويلجأ الأهل إلى المعالجين النفسانيين وأطباء الأعصاب، حتى يصل الأمر بهم إلى وصف الأدوية التي قد تزيد الطين بِلّة، وتعقّد الحالة، وكم من (مجنون) كان لأهله الدور الأكبر في جنونه، وكم من عبقري كان للأهل الدور الأكبر في عبقريته.
حدّثني أحد الأصدقاء أنه كان يصطحب ابنه إلى المسجد كل يوم جمعة، أو أحياناً كثيرة في أوقات الصلاة العادية، وظل كذلك إلى أن أنهى الشاب المرحلة الثانوية وذهب للدراسة الجامعية في دولة أجنبية، حيث الحريات والانفتاح، فما كان من الشاب أن قصّ شعره بتسريحة غريبة، وبدأ بارتياد الملاهي الليلية، وما يتّصل بها من سلوكيات وطقوس، وبعد ثلاثة أشهر عاد الشاب إلى شخصيته الأولى الملتزمة.
ترى لو حصل هذا التّحوّل في بيت الأهل، أي مشاكل ستحدث بين الأهل والشاب، وأي معارك ستنشب؟ والعكس حدث مع شباب آخرين، سافروا منفتحين جداً وعادوا متزمّتين. والسؤال الذي يرد على البال مباشرة هو: هل تدخّل الأهل في التربية، ووضع سيل من المحظورات والمسموحات (من وجهة نظرهم)، واعتماد الشّدة في التطبيق هو الذي يقود إلى أن يمارس الشاب طبعه الذي خبّأه سنوات طويلة، حتى أتيحت له الفرصة أن يكون ذاته؟ وهذا يقودنا إلى الشخصية المتطرّفة، كيف تتكوّن؟ وهل الجينات تلعب دوراً كبيراً أم أن البيئة، بما تحمله من قراءات وأصدقاء ومعلّمين ومربّين ونماذج هي العامل الحاسم؟ وهل هذا يعني أن الشاب لو انتقل إلى بيئة أخرى سيطرأ تغيير كبير على شخصه، أم سيحافظ على معتقداته ومبادئه وسلوكه وطبائعه؟
طبعاً علينا ألا نغفل دور الموجّهين أو المعلّمين الذين يتّخذون من الواقع، الذي غالباً ما يحتوي على الانحلال والفساد وانحسار الأخلاق والظلم السياسي والاقتصادي والإنساني، إضافة إلى الفقر والحاجة، فيربون الشاب على الحقد والثأر أكثر من العقيدة، بغض النظر عن شكل العقيدة وطبيعتها، فيشب الشاب وفي داخله قوة الانتقام وميل إلى الكراهية، حتى أنه يحاكم الناس على الضحكة والسعادة، وهو يظنّ أنه يصلح المجتمع بالعنف والقتل والتدمير.
صحيح أن الجهل يلعب دوراً وأرضية خصبة لهؤلاء الموجّهين، الذين يصطادون الشباب في المجتمعات الأمية والفقيرة والجاهلة، لكن التربية والحشو لا يكفيان لخلق شخصية ناقمة وعنيفة.
سأل أحد القادمين من البلاد المتقدّمة رجلاً لم تطأ قدماه تلك البلاد، وكان متسامحاً موضوعياً عقلانياً ومنطقياً: كيف استطعت أن تكون كذلك وتحمل هذه الشخصية الحرّة المتحرّرة الموضوعية التي ترى في الأمر أكثر من وجه؟ فردّ عليه الرجل: إنها القراءة والصدق مع الذات والمكاشفة ومصادقة الطبيعة وقبول الآخر. فردّ عليه القادم من بلاد الحريات أن كثيرين يقرؤون، ولكنهم ليسوا كذلك. فردّ عليه أنه يقرأ في كل الاتجاهات، مع من يتّفق معه ومن لا يتّفق، فكوّن في داخله الرأي والرأي الآخر، أما القراءة في اتجاه واحد ستجعلك أسير فكر واحد ووجه واحد للحقيقة.
هل القراءة المتنوّعة تكفي لتربية إنسان منفتح متفتّح يقبل الآخر ولا يضمر له الشر والإلغاء والشطب؟ قد تكون كذلك، ولكن من دون التأمّل والإيمان بالمحبة والخير ومشاركة الآخرين والتفاعل معهم، لن نحصل على النتيجة المرجوة. هذا من حيث التنظير، وتبقى لكل حالة قصة، ولكل إنسان تجربة، من هنا، يُقال إن في داخل كل إنسان رواية لو كتبها بصدق لشُفي من أمراض وعُقد، وساعد الآخرين على الشّفاء. وهذا الكلام لا يعني أن التّطرف مرض نفسي، لو قلنا ذلك سنجافي الحقيقة، التي تجمع عناصر كثيرة ابتداء من التنشئة في الصغر، وصولاً إلى مرحلة النضج.
أسلوب التلقين وفرض الآراء وحشو الأدمغة قد يأتي بنتيجة في الصّغر، لكنه لن يستمر في الكبر، حيث سيكون الإنسان ذاته وما زوّده الله به من طبائع وميول تختلف من شخص لآخر.. والحديث ذو شجون لا سيّما في ظل عالم يضجّ بالأفكار والتوجّهات.
الخليج الاماراتية