التفكير المستقل: شجاعة العقل في مواجهة الوصاية:

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

منذ أن بدأ الإنسان رحلته مع الفكر، وهو ممزق بين غواية الاتّباع وإغراء الحرية. فالعقل، في جوهره، ليس مرآةً صامتة تعكس ما يُلقى عليها من صور، بل هو قوة حيّة، كائن متوثب لا يعرف السكون. إنّه، كما شبّهه هيراقليطس، نهرٌ لا يتوقف عن الجريان، يعيد تشكيل مجراه كلما اصطدم بحجر الحقيقة أو صخرة الشك. لكن المفارقة أن أغلب العقول ترضى بأن تكون خزائن تحفظ مقولات القدماء وأصداء المعاصرين، وتكتفي بما يسكنها من أصوات ليست أصواتها. هنا تبدأ معركة خفية، قلّما نلتفت إليها: معركة العقل مع نفسه، بين أن يكون أسيراً أو أن يجرؤ على الاستقلال.
القراءة الكثيفة، على عظمتها، لا تصنع وعياً بذاتها؛ فكما يقول كانط: “العقل لا يتغذّى بالمعرفة الجاهزة، بل بقدرته على استعمالها بحرية.” إنّ من يقرأ دون تفكير يشبه من يشرب البحر عطشاً؛ فلا يزداد إلا ملحاً في حلقه، ولا يقترب خطوةً من نبع الحكمة. المعرفة الحقيقية لا تقاس بعدد المقولات التي نحملها، ولا بكم الاقتباسات التي نحفظها؛ بل بقدرة العقل على أن يواجه ذاته والعالم بلا وصاية ولا قيود. وهنا تتجلى الفلسفة كأسمى فنون الحرية: أن يجرؤ العقل على نقد موروثه، وأن يسائل ما اعتاد الناس على قبوله دون تمحيص.
ديكارت، في تأملاته، لم يبدأ فلسفته إلا من لحظة الشك الجذري؛ لأن الشك ـ كما قال ـ هو “الطريق إلى اليقين.” وهكذا، فإن الاستقلال الفكري يولد من رحم الجدل: حيث تتصارع الفكرة مع نقيضها، وحيث تُختبر المسلّمات حتى تتكشف حقيقتها أو تنهار. لكن هذه الحرية ليست طريقاً مفروشاً باليقين، بل بالمخاطر. فالعقل المستقل يغامر بدخول مناطق العتمة؛ حيث لا تنير الطريق إلا شرارات الأسئلة. نيتشه كان يرى أن “من يملك سبباً يعيش من أجله، يستطيع أن يتحمّل كلّ الكيفيات.” والسبب هنا ليس وصية خارجية، بل ثمرة عقل تحرر من عبودية القطيع.
وحين يعجز العقل عن خوض هذه المغامرة، تتقدّم العاطفة لملء الفراغ؛ فيظهر التعصب مكان الفهم، والتقديس الأعمى مكان النقد الحر. عندها تتحول الثقافة إلى طقسٍ ميت يردده الناس كما يرددون تعاويذ قديمة بلا روح. وهنا يحذّر سبينوزا من أن الخوف، إذا لم يُقاوَم بالعقل، يتحول إلى أداة استعباد، فيغدو الإنسان عبداً لجهله ولانفعالاته.
الفلسفة في جوهرها ليست تراكم معارف، بل جرأة ووعي. أن تحيا في حضرة السؤال لا في عبودية الجواب، أن تحتفظ لنفسك بحقك في أن تقول: “لا أعلم”، وأن تجعل من الشك بدايةً للحقيقة لا نهايتها. كما يذهب هابرماس، فإن الفضاء العمومي لا يقوم إلا حين يمتلك الأفراد شجاعة استعمال عقولهم بلا وصاية، في ما سماه كانط من قبل “الخروج من حالة القصور.”
إنّ التفكير المستقل ليس ترفاً، بل هو أعلى أشكال الحرية الإنسانية، وأعمق تعبير عن كرامة الكائن العاقل. من يتجرأ على أن يفكر وحده، حتى وإن خالف العالم كله، هو وحده من يملك أن يكون سيد ذاته. وكما قال سارتر: “الحرية هي ما تفعله بما فُرض عليك.” والفكر الحر هو أن تحوّل الإرث المفروض إلى مادة حوار، لا إلى قيود مسلّطة.
هكذا يغدو التفكير المستقل معركة لا تقل قداسة عن أي معركة خاضها الإنسان في سبيل كرامته. إنها معركة بلا سيوف ولا دماء، لكنها تحسم مصير وجوده: إما أن يظل صدى لأصوات الآخرين، أو أن يصبح نغمة فريدة في سيمفونية الكون. إنّها معركة من أجل أن يكون العقل نهراً لا خزانة، رحلةً لا محطة، سؤالاً لا جواباً. وفي هذا تكمن شجاعة الفكر، وكرامة الإنسان.