ثمّة إرباك كبير في إيران و”جبهة المقاومة” الملحقة بها، حتى لو كانت نبرة خطابات قادتها مرتفعة وعباراتهم مصاغة من شعارات الثقة بالنفس بالاستناد إلى الترويج لاصطفاف القوة الإلهية إلى جانب من يصرون على وصف أنفسهم بـ”شرفاء هذه الأمة”!
وهذا الإرباك بديهي، إذ إنّ الضربات المتلاحقة التي تتلقاها إيران وتنظيمات “جبهة المقاومة” التي تقودها، ليست “عابرة” ولا “وليدة الصدفة”، بل هي “مؤثرة” و”دالة”، ولها تداعيات خطيرة للغاية، حتى لو ابتدعت الدعاية السياسية كل أساليب التمويه والإلهاء.
إنّ اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في طهران فيما كانت في أعلى جاهزيّتها الأمنية، إذ كانت تستضيف المدعوين إلى حفل تنصيب الرئيس الجديد مسعود بزشكيان، لهو حدث جلل، حتى عندما سلّم الجميع بأنّه ناجم عن صاروخ أطلقته طائرة حربية، وأصبح حدثاً خطيراً للغاية، عندما كبر الشك بالرواية الصاروخية لمصلحة تقدم اليقين بإمكان أن يكون ناجماً عن عبوة ناسفة جرى زرعها في جناح “الضيف الكبير” المستهدف.
ومع مرور الساعات، بدا أنّه تمّ التعامل مع طريقة اغتيال هنية، بقدر كبير من التضليل الذي يخفي الكثير من الإرباك، فغابت الرواية الرسمية لمصلحة الشائعات هنا والتسريبات هناك، مع أنّ أيّ حدث تترتب عليه نتائج، مثل إمكان تسببه باندلاع حرب، يحتاج إلى كثير من الوضوح والدقة، بغض النظر عن الجهة التي يمكن اتهامها بالوقوف وراءه.
من المنطقي أن تكون إسرائيل ضالعة باغتيال هنية، ولكن من المنطقي أكثر أن تكون السلطات الإيرانية قادرة على تحديد دقيق للطريقة التي تمّ بها هذا الاغتيال، فإن كان بصاروخ أطلقته طائرة حربية، فهذا عدوان مكتمل الصفات، ولا يحتاج إلّا إلى تحديد المصادر التي أتاحت للاستخبارات الإسرائيلية الحصول على معلومات دقيقة عن مكان وجود هنية عند استهدافه بالصاروخ، ولكن، إذا حصل هذا الاغتيال، بواسطة عبوة ناسفة، فهذا له تداعيات مختلفة، لأنّه يُظهر أنّ الأمن الإيراني مخترق، وبشكل خطر للغاية، في “قدس أقداسه”، إذ لا يمكن التعاطي مع اغتيال “ميداني”، في ظل استنفار أمني واستخباري وعسكري، كما لو كان مجرد عدوان خارجي، لأنّه، في هذه الحالة، يظهر أنّ الخلل الداخلي، أفظع بكثير!
وإذا كانت إيران واثقة باتهامها إسرائيل التي نفت أن تكون قد اغتالت هنية بواسطة واحدة من طائراتها الحربية، من دون أن تقدم أي تعليق إيجابي أو سلبي على اتهامها باغتيال هذا المتربع على رأس قائمة أهدافها، فإنّ “الجمهورية الإسلامية”، حتى لو استعرضت قوتها أمام العدو والخصم والصديق، لا يمكنها أن تتغاضى عن أنّها، في ظل قدرة هائلة للاستخبارات المعادية على التحرك في أدق نقاطها، غير جاهزة، فعلياً، لحرب بلا ضوابط، خصوصاً أنّها كما اتضح، على رغم حديثها المستمر عن العمل على رمي إسرائيل في البحر، لم تتمكن من تجهيز العدة اللازمة لذلك، بل اكتفت بإيجاد إطار يعينها على أذية موقتة لإسرائيل لكن ليس على تهديد وجودها.
في هذا الوقت، بدا واضحاً أنّ خطاب الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله في تشييع القائد العسكري لـ”المقاومة الإسلامية في لبنان” فؤاد شكر الذي “تباهت” إسرائيل باغتياله في شقة كان فيها، في حارة حريك، وهي “عاصمة الدويلة الإسلامية في لبنان”، لم يكن بحجم الحدث، ولو صيغت عباراته بالحديث عن وجوب ترقب نهج جديد تعتمده تنظيمات “جبهة المقاومة”.
وليس سراً أنّ الإرباك الذي يعانيه “حزب الله”، بعدما تلمّس، مرة جديدة، أنّ إسرائيل قادرة على الوصول إلى من تريد وحيث تريد، على امتداد لبنان، أفقد نصر الله الرصانة في حديثه عمّن يزعجه بالأسئلة العلنية هنا وبالمعلومات هناك، فكال القدح والذم والتحقير، بهؤلاء.
وخروج نصر الله عن الرصانة، في تعبير عن “ضيق صدره”، لا يعود إلى رغبة لديه بتخدير جمهوره من خلال إرشاده إلى “أهداف ثانوية” تلهيه عن طرح “الأسئلة المصيرية” فحسب، بل يفضح، أيضاً ما يعتمل في وعي قيادة “حزب الله” من صعوبات في تقديم صورة واضحة عن القدرات التي تملكها إسرائيل لأذيته، بشرياً وأمنياً ومعنوياً، وعن العجز النوعي الذي يعانيه هو.
ولا يمكن لـ”حزب الله” في هذه الحالة، حتى لو كان راغباً بذلك، أن يقدم على خطوات من شأنها أن تتسبب باندلاع حرب، إذ إنّه لم يعد مدركاً، في ضوء الضربات النوعية التي يتلقاها، للنوافذ الكثيرة التي يمر عبرها عدوّه الإسرائيلي، لتوهين نقاط قوّته.
وعجز “حزب الله”، على رغم مرور ما يقارب العشرة أشهر، عن سد الثغرات التي تعين إسرائيل على استهدافه نوعياً، يضعه وإيران في خانة قلقة واحدة.
وبناءً عليه، وفي ظل خلق صورة عدم اليقين الجاذبة للاهتمام، لم تعد جبهة لبنان ومعها جبهات إيران واليمن والعراق وسوريا، قادرة على توفير، ولو الحد الأدنى من المؤازرة لغزة المتروكة مقاومتها لمصيرها، بل تحوّلت كلّها من جبهات مساندة لغزة إلى جبهات إلهاء عن غزّة!