التنمّر بوصفه بنية عنف كامنة: قراءة نفسية وثقافية وسياسية في آليات الإقصاء الاجتماعي:

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

لم يعد التنمّر ظاهرةً هامشية أو سلوكًا فرديًا معزولًا، بل غدا أحد الأعراض البنيوية التي تكشف عن اختلالات عميقة في الوعي الاجتماعي والثقافي والسياسي. فالتنمّر لا يولد في الفراغ، ولا ينمو في نفسٍ فرديةٍ بمعزل عن محيطها، بل يتغذّى على أنساق التربية، وأنماط السلطة، وخطابات الهيمنة، وما يترسّب في اللاوعي الجمعي من قيم الإقصاء والتفوق والاستعلاء.
إن مقاربة التنمّر تقتضي تجاوز التفسير السلوكي الضيق، والانتقال إلى قراءة مركّبة ترى فيه تجليًا للعنف الرمزي والمادي معًا، وعلامة على صراع الهويات، وارتباك العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين السلطة والحرية، وبين العقلانية والغريزة.
أولًا: الأنظمة الاجتماعية بين الحماية وإنتاج العنف
تخضع المجتمعات الحديثة والمعاصرة لأنظمة وقوانين وتشريعات متنوّعة، يُفترض بها أن تنظّم العلاقات الاجتماعية، وتحمي حقوق الأفراد، وتوفّر شروط التقدّم والاستقرار. غير أن هذه الأنظمة، مهما بلغت درجة صرامتها أو عقلانيتها، لا تخلو من تشقّقات بنيوية تسمح بتسرّب العنف، والتعصّب، والفوضى، سواء بصيغها الصريحة أو المستبطنة.
فالإنسان، بوصفه كائنًا مركّبًا، يجمع في تكوينه بين العقل والاندفاع، وبين النزوع إلى السلام والنزوع إلى العدوان. لذلك لا يمكن افتراض وجود مجتمع خالٍ تمامًا من العنف، كما لا يمكن اعتبار التقدّم التقني أو المؤسسي ضمانة أخلاقية مطلقة. فكما يشير زيغمونت باومان، فإن الحداثة نفسها قادرة على إنتاج أشكال جديدة من العنف، أكثر نعومةً وأشدّ فتكًا.
ثانيًا: التنمّر كظاهرة عابرة للمجتمعات
التنمّر ظاهرة كونية، لا تقتصر على المجتمعات المتخلّفة، ولا تنعدم في المجتمعات المتقدّمة. لكنه يختلف في آلياته وتمظهراته باختلاف البنية الثقافية والسياسية. ففي مجتمعات يسودها القمع، يظهر التنمّر بوصفه امتدادًا للعنف السلطوي، وفي مجتمعات أكثر انفتاحًا، قد يتخذ أشكالًا رمزية أو نفسية أو رقمية.
وهو في جوهره عاهة أخلاقية وتربوية، تنشأ عن خلل في التنشئة الاجتماعية، وعن تلقين أيديولوجي يقوم على ثنائيات الإقصاء:
(نحن / هم)، (الأقوى / الأضعف)، (الأنقى / الدخيل).
وغالبًا ما تكون دوافع التنمّر هوياتية:
عرقية، إثنية، عائلية، عشائرية، طائفية، مذهبية، أو حزبية، بما يعكس هشاشة مفهوم المواطنة، وغياب الوعي بالإنسان بوصفه قيمة في ذاته.
ثالثًا: القراءة النفسية للتنمّر
يرى علماء النفس أن التنمّر سلوك عدواني متعمّد، يُمارَس من فرد أو جماعة ضد آخر أضعف، ويستند إلى شعور متضخّم بالقوة أو التفوق. ويظهر هذا السلوك بوضوح لدى الأطفال والمراهقين، خصوصًا في البيئات المدرسية، حيث تتحوّل السلطة الرمزية إلى أداة إذلال وإخضاع.
1. فرويد: العدوان وغريزة الموت
يرى سيغموند فرويد أن السلوك العدواني، ومنه التنمّر، هو أحد تجليات غريزة الموت (Thanatos)، أي النزوع اللاواعي إلى التدمير، سواء باتجاه الذات أو الآخرين. فالطفل، وفق هذا التصور، يولد بطاقة عدوانية خام، ولا يمكن القضاء عليها كليًا، بل إعادة توجيهها عبر التسامي والتربية والضبط الثقافي.
2. ألفرد أدلر: التعويض عن الشعور بالنقص
أما ألفرد أدلر، مؤسس علم النفس الفردي، فيربط السلوك العدواني بالشعور بالدونية. فالمتنمّر، في نظره، لا يمارس العنف لأنه قوي، بل لأنه يشعر بالهشاشة، فيعوض نقصه بالسيطرة على الآخرين وإذلالهم.
وهنا يصبح التنمّر قناعًا نفسيًا يخفي خلفه خوفًا عميقًا من الفشل أو فقدان الاعتراف.
رابعًا: التنمّر والسياسة – حين يتشابه الفرد والسلطة
لا تنفصل الحياة السياسية عن الحياة الاجتماعية، فالسياسة ليست حكرًا على مؤسسات الدولة، بل تتسلّل إلى اللغة اليومية، والنقاشات العامة، وأنماط التفاعل بين الأفراد. وتشير مقولة عالم الاجتماع أنتوني غيدنز:
«يبقى الكيان السياسي الواحد هو الإطار الذي يتحرّك فيه المواطنون في نضالهم من أجل الديمقراطية»
إلى أن وعي الأفراد السياسي هو نتاج مباشر لبنية السلطة السائدة.
في المجتمعات المستبدة، يُعاد إنتاج التنمّر على مستوى العلاقات اليومية:
سلطة الرجل على المرأة
سلطة الأب على الأبناء
سلطة الشيخ على المريد
سلطة الحزب أو الطائفة على الفرد
وهكذا، يتماهى الفرد مع المستبد، ويمارس القمع ذاته الذي يعانيه، في دورة عنف لا تنتهي.
خامسًا: التنمّر والعنف الرمزي ضد المرأة
يُعدّ التنمّر ضد المرأة أحد أكثر أشكال العنف شيوعًا، لأنه يستند إلى أنا ذكورية متضخّمة ترى في الهيمنة شرطًا لتحقيق ذاتها. ولا يختلف خطاب بعض المثقفين أو المتدينين أو السياسيين، في جوهره، عن خطاب السلطة القمعية؛ فكلاهما يسعى إلى ضبط الجسد، وتقييد الحرية، ومصادرة الصوت.
كما يقول بيير بورديو، فإن العنف الرمزي هو أخطر أشكال العنف، لأنه يُمارَس باسم القيم والأخلاق، ويُقبَل من الضحية أحيانًا بوصفه «طبيعيًا».
خاتمة
إن التنمّر ليس مجرّد سلوك شاذ، بل مرآة تعكس اختلالات عميقة في بنية المجتمع، وفي علاقة الفرد بالسلطة، وبالآخر المختلف. ومكافحته لا تتم عبر القوانين وحدها، بل عبر إعادة بناء الوعي، وتفكيك الأنساق الثقافية التي تُشرعن العنف، وتُقدّس الإقصاء، وتستبدل الإنسان بالهوية الجمعية المتعصّبة.
فحيثما يغيب العقل النقدي، وتُقمع الحرية، ويتقدّم الانتماء الأعمى على القيمة الإنسانية، يصبح التنمّر لغةً يومية، وسلوكًا مشروعًا، وأداة لإعادة إنتاج الاستبداد، بأشكاله كافة.