منذ أن كتب إيمانويل كانط مقالته الشهيرة “ما هو التنوير؟” سنة 1784، كانت عبارته الصارخة: “التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، بسبب عجزه عن استخدام عقله دون توجيه من إنسان آخر” بمثابة الشرارة التي أيقظت العقل الأوروبي من سباته الطويل. فالكلمة المفتاحية هنا ليست العقل فحسب، بل الشجاعة في استعماله. تلك الشجاعة التي دعا إليها كانط تحت شعار “تجرأ على استخدام عقلك”.أ و
“تجرّأ أن تعرف”. ومع هذه الصيحة، بدأ مشروع الإنسان الحديث في الانفصال عن الوصاية الكنسية، وعن كلّ سلطةٍ تُعطل ملكة التفكير الحرّ وتُحيل الإنسان إلى تابعٍ مطيع لا إلى كائنٍ عاقلٍ مبدع.
لكنّ التنوير لم يكن حدثاً زمنياً في أوروبا فحسب، بل تحوّل إلى وعيٍ فلسفيّ شامل أعاد تعريف الإنسان والعقل والحرية والمعنى. فحينما يتكلّم كانط عن القصور الذاتي، فهو لا يشير إلى الجهل، بل إلى الجبن العقليّ الذي يجعل الإنسان يخاف من ممارسة التفكير المستقل. وهنا تلتقي فلسفة التنوير مع نداء سقراط القديم: “اعرف نفسك بنفسك”، ومع رؤية ديكارت الذي جعل من الشكّ أساساً للمعرفة، ومع صرخة سبينوزا الذي رأى في العقل جوهر الحرية الإنسانية.
_ التنوير بوصفه تحرّراً من التبعية الذهنية:
لقد أدرك فلاسفة الحداثة أن الإنسان حين يترك غيره يفكر مكانه، يفقد إنسانيته تدريجياً. فالتبعية الذهنية، كما يصفها هربرت ماركيوز في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد، هي أخطر أشكال الاستلاب لأنها تجعل الإنسان يتوهم الحرية وهو في قيدٍ من نماذج التفكير الجاهزة التي تفرضها المنظومات السياسية والإعلامية والدينية. وفي السياق ذاته، يرى المفكر المغربي محمد عابد الجابري أن أزمة العقل العربي تكمن في “هيمنة النقل على العقل”، أي في خضوع الفكر العربي لتراثٍ يُقدّس الماضي أكثر مما يُبدع الحاضر، فيتحوّل المثقف إلى شارحٍ للنصوص بدل أن يكون صانعًا للمعنى.
التنوير إذن ليس ثورة على الدين كما ظنّ بعض القرّاء السطحيين، بل هو ثورة على الوصاية باسم الدين، أو باسم الأيديولوجيا، أو حتى باسم الحداثة ذاتها. فهو وعيٌ إنسانيّ يتطلّب استقلالًا داخليًا قبل أن يطالب بالإصلاح الخارجي. وهذا ما عبّر عنه نيتشه حين قال: “أخطر ما يهدد الإنسان ليس القيود التي تُفرض عليه من الخارج، بل تلك التي يضعها في داخله خوفًا من الحقيقة.”
—الحداثة: من الوعي بالعقل إلى عقلنة الوعي:
تُعدّ الحداثة، في عمقها، حركة عقلانية متحرّكة لا تسكن ولا تكتمل. فهي ليست ضد الماضي بل ضد الجمود؛ ليست إلغاءً للتراث بل إعادة قراءته في ضوء الحاضر. إنّها كما يقول يورغن هابرماس: “مشروع لم يُنجز بعد”، أي أنّها عملية مستمرة لتوسيع حدود الحرية والعقل والكرامة الإنسانية.
في الفكر العربي، شكّل سؤال الحداثة والتنوير أزمة مزدوجة: كيف نكون حداثيين دون أن نفقد ذواتنا؟ وكيف نكون أصيلين دون أن نغرق في التراث؟ لقد واجهت النخب العربية، منذ عصر النهضة، هذا التوتر بين “الاقتباس” و“الانبعاث”. فبينما دعا طه حسين إلى “حرية العقل من سلطة النص”، رأى مالك بن نبي أن التنوير لا يُبنى إلا بوعيٍ حضاريٍّ متكامل يعيد للإنسان فاعليته الأخلاقية والروحية.
ومن هنا، فإنّ التنوير العربي لا يمكن أن يُختزل في محاكاة النموذج الغربي، بل ينبغي أن يُولد من تجربة نقد الذات واستعادة ثقة الإنسان العربي بعقله. ذلك أنّ أخطر أشكال القصور في ثقافتنا ليست في الجهل المعرفي، بل في “الاستقالة من التفكير”، كما يقول عبد الله العروي، وفي “الخضوع للمرجعيات المغلقة التي تقتل السؤال قبل أن يولد”.
_ التنوير كفعل روحيّ قبل أن يكون عقلانيّاً:
التنوير ليس ضوء العقل وحده، بل نور الوجدان أيضًا. فالعقل بلا ضمير يتحوّل إلى آلةٍ باردة، كما حذّر ألبير كامو حين قال: “العقل بلا روح يولّد العبث.” ولهذا، كان أعظم ما في التنوير هو توازنه بين الحرية والمسؤولية، بين النقد والإبداع، بين الشكّ والإيمان. فالإنسان المتنوّر هو من يستبدل الطاعة العمياء بالاختيار الواعي، ويؤمن بأن التفكير الحرّ لا يعني القطيعة مع الإيمان، بل تحرّره من الخرافة والتسلّط.
–خاتمة:
إنّ التنوير الحقيقي ليس في قراءة كانط أو هيغل، بل في أن نمارس في حياتنا ما دعا إليه هؤلاء: أن نستخدم عقولنا بشجاعة. أن نتحرّر من الحاجة الدائمة إلى وصيٍّ يُفكّر بالنيابة عنا. فالتنوير ليس لحظةً فكرية، بل أسلوب وجودٍ إنسانيّ يقوم على الجرأة في التساؤل، والمسؤولية في الفهم، والصدق في البحث عن الحقيقة.
إنّ ما تحتاجه مجتمعاتنا اليوم ليس استيراد أفكار الحداثة، بل تجذير فعل التنوير في الوعي العربيّ، حتى لا نبقى أسرى بين تقليدٍ أعمى للماضي وتقليدٍ أعمى للغرب، بل نصنع حداثتنا التي تُشبهنا وتُعبّر عنّا. فكما قال الشاعر والناقد الفرنسي بول فاليري: “الحداثة ليست زمنًا نعيشه، بل وعيًا نُبدعه.”
 
								 
															







