على مدى شهرين، تزايدت حالات اجتياح الجيش الإسرائيلي جواً وبراً للسيادة اللبنانية، ثم أدخل المخطط النتنياهو في شأن هذه السيادة الغزو بحراً، وتتم عملية خطف ضابط بحري من «شاليه» في أحد المنتجعات يقيم فيه، وتستغرق العملية التي نفَّذها مجموعة كوماندوز إسرائيليين أقل من ساعة، ومن دون أن يتصدى لهم أحد ويعود الخاطفون في الزوارق التي أتوا بها لتنفيذ عدوانهم.
وهكذا حال اللبنانيين؛ لا يكفون عن الشكوى من هذا الذي أصاب الوطن، وتحوَّل خلال شهريْن إلى مشروع غزاوي معدَّل، وقد تتطور الأمور بحيث تنفِّذ إسرائيل نتنياهو المزيد من الاجتياحات، إلا إذا كانت الإدارة الأميركية الجديدة متمثلة بترمب الثاني أي «أميركا الجمهورية» ستكون أكثر رفقاً بالأحوال عموماً من غزة إلى لبنان وتزيل بالتدرج، تجاوباً مع ما ستتخذه القمة العربية – الإسلامية من قرارات، آثام الإدارة المتوارية في حق سمعة أميركا على مدى ست سنوات «ديمقراطية» من أنها ارتضت العدوان المتواصل على غزة ولبنان من إسرائيل نتنياهو، وما تركه هذا الارتضاء من صدمة في النفس العربية، فضلاً عن ارتضائها اجتياز إسرائيل المتجنِّية لحدود دولة مصنفة صديقة تاريخية للولايات المتحدة. وهوس توسيع الحدود ليس جديداً على أهل الحكم الإسرائيلي الحاليين المنقسمين على المراكز الساهين عما تخبئه الأيام من جولات ثأرية لهم من جانب جيل غزة ولبنان في النصف الآتي من القرن، حيث يكون الذين عاشوا كفتية أو كأطفال مشاهد القتل والتدمير وقاسوا ويلات التجويع ومعاناة العلاج باتوا في سن الشباب وأكثر استعداداً للثأر. وهذا لا يحولُ دونه سوى قيام دولة فلسطينية يبدأ فيها الجيل الآتي الذي عاش المحنة واكتوى بنار صواريخ الطائرات الإسرائيلية حياة جديدة تتحقق في ضوء المعالجة الدولية والنخوة العربية – الإسلامية لما يجوز اعتبارها «محنة القرن»… معالجة تبدأ بالترميم الصحي والنفسي والعمراني وبوضع الشعب الفلسطيني وثلث الشعب اللبناني، وقد توحِّد الصف اضطراراً، وليس اختياراً، على الصراط المستقيم.
ولقول إن توسيع الحدود، أو بمفهوم الافتراس، تحت سمْع الدول الكبرى وبصرها ليس جديداً، ذلك أن بعض وثائق نصف قرن مضى تتضمن من جملة ما تتضمنه وثيقة تفيد بأن موشي دايان الذي ارتبط دوره كرئيس للأركان في الجيش الإسرائيلي في الستينات بهزيمة الخامس من يونيو (حزيران) 1967، كان من جملة ما وضعه عام 1956 عبارة عن التوسع الأكبر تم الكشف عنها السبت 21 فبراير (شباط) 2009 تهدف، وعلى نحو ما نشرتْه «الشرق الأوسط» قبل ربع قرن، إلى احتلال قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء حتى قناة السويس، ثم احتلال الضفة الغربية حتى الخليل في المرحلة الأولى، ثم الوصول إلى نهر الأردن في المرحلة الثانية. وفي لبنان يتم احتلال الجنوب اللبناني حتى نهر الليطاني، وفي سوريا احتلال الجولان وصولاً إلى دمشق.
وأما بقية وثيقة الهوس الداياني بالتوسع، فتتضمن ما حذر منه ديفيد بن غوريون، رئيس الوزراء زمنذاك، فكان إلغاء الخطة الهتلرية.
وما حدث بعد ذلك أن وسواس توسيع الحدود توارثه الذين تعاقبوا على ترؤس الحكومات اللاحقة، وصولاً إلى الحكومة الحالية، برئاسة نتنياهو، الذي كشف في مقابلة تلفزيونية (الأحد 11 فبراير 2024) عن أنه خطَّط لتهجير سكان رفح قبل الهجوم، فكان في صدد التنفيذ لولا أن الحُكم المصري، وعلى لسان وزير الخارجية السابق سامح شكري، حذر بشدة من ذلك، وقيل إنه لمح إلى احتمال تعليق مصر معاهدة السلام مع إسرائيل إذا تحرك الجيش الإسرائيلي ونفَّذ التهجير المشار إليه، ثم أوضح الوزير الموقف بقوله: «دائماً تحافظ مصر على التزاماتها ما دام الأمر تبادلياً بين الطرفيْن. ولقد حافظت مصر على اتفاقية السلام مع إسرائيل على مدار الأربعين عاماً الماضية». لكن تبقى عبارة «ما دام الأمر تبادلياً» تعني أنه لمجرد أن تخطو إسرائيل في اتجاه توسيع الحدود، فإن مصر ستلغي.
لوثة التوسع والتعربد كانت تحدُث بين الحين والآخر ربما لكي تبقى حاضرة كهدف لا عودة عنه من جانب الحكم الإسرائيلي، بل حتى إن خططاً لترحيل جماعي لفلسطينيين يقيمون جنوب المسجد الأقصى كانت دائماً على أهبة التنفيذ، وكل هذا انسجاماً مع مفهوم نتنياهو من تشكيله حكومة الإبادة والتدمير والتجويع الذي أوجز مضمونه غير مرة في مفهومه للسلام من خلال القول: «إن السلام الوحيد بالنسبة لي هو السلام الذي تستطيع فيه إسرائيل الدفاع عن نفسها، وهذا وارد من خلال منْح الفلسطينيين صلاحيات لحُكم أنفسهم، دون سيادة، على أن يبقى الأمن بيد إسرائيل». وعندما تكون الكلمة الأساسية داخل الحكومة لحليفه، إيتمار بن غفير، فإن ما يراه نتنياهو للسلام مع الفلسطينيين ليس مجرد وجهة نظر، وإنما هو حلقة في مسلسل برسم التنفيذ لتوسيع الحدود… بل وربما لإخلاء الكيان الإسرائيلي من العرب الذين يعيشون منذ بداية 1948 في بعض مدن الوطن المحتل مكرهين يتحملون وطأة الاحتلال، من دون أن يغيب وطن الحرم الثالث وموطن الأجداد والآباء عن الخاطر. وهذا في انتظار أن تفي أميركا ترمب الثاني آمالاً كانت معلّقة على رئاسته الأولى، تسديداً لوقفة سعودية – خليجية – عربية – إسلامية مع تلك الرئاسة، منذ أن بدأت، ونعني بذلك القمة التاريخية التي أرادها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لفتة تكريم وتدعيم للرئيس السابع والأربعين للولايات المتحدة. أضفى ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان من الاهتمام إسماعاً وإصغاء متبادلاً بينه وبين الرئيس الأميركي المحتفى به؛ ما أبقى الرؤية المستقبلية للرئيس ترمب صامدة نسبياً، فيما الحكم الإسرائيلي يواصل جولات العدوان والتعربد على كل فلسطين غزة، وعلى ثلاثة أرباع لبنان، بدل الحمد والشكر بأن العرب ما زالوا عند الموقف الموضوعي، وهو تثبيت السلام في المنطقة… إنما من خلال الحسم الدولي الثابت لصيغة الدولتيْن: دولة إسرائيلية ينزع الذين يتولون مقاليد السلطتيْن السياسية والعسكرية من هواهم أحلام التسيد على المنطقة والتمدد على سيادات بعض دولها عدواناً وغزواً، ودولة فلسطينية يناصرها الأشقاء العرب والمسلمون ومعهم التيارات العاقلة في المجتمع الدولي من أجل بناء دولة يكون فيها الحرم الثالث وكنيسة القيامة وسائر الأماكن الدينية في منأى عن شحن رموز التيارات الصهيونية لبني قومهم في اتجاه اعتبار الشر يتقدم على الخير.