الثقافة الإبداعية:

د. عدنان عويّد

إن ما يقابل الثقافة الشفهيّة الامتثاليّة (العالمة) العاملة على إقصاء العقل وحريّة الإنسان, هناك الثقافة الإبداعيّة التي تشكل العتلة أو الرافعة النهضويّة لتسييد هذا العقل وهذه الإرادة. فمن خلال هذه الثقافة الإبداعيّة ومنتجيها وحامليها ومروجيها ومستهلكيها الاجتماعيين, والتي ضحى قسم كبير منهم براحته وسعادته, بل حتى بحياة بعضهم, من أجل الحقيقة وسيادتها وتعميمها في حياة الإنسان, كانت الثقافة المعبرة عن القيم الإنسانيّة النبيلة بكل مفرداتها في الماضي والحاضر, وسيظل أمرها في المستقبل أيضاً. فلولا هذه الثقافة الإبداعيّة العقلانيّة ما كان هناك تطور في حياة الإنسان, ولما وصلت المجتمعات إلى ما نحن فيه اليوم من علم ومعرفة على كافة المستويات. كم كان لسقراط وكوبرنيك وغاليلو وهارفي وابن رشد, وابن خلدون وابن سينا وجابر بن حيان والفارابي وزرياب, ولعلماء الذرة والميكانيك وعلم الاجتماع والفضاء والزراعة وغيرها من علوم, بل ولكل فرد مبدع فيها, من دور كبير في صيرورة هذه الحياة وسيرورة تقدمها؟. نعم أنها ثقافة العقل والقلم مقابل ثقافة الفم والنقل.. إنها ثقافة الحياة مقابل ثقافة الموت… ثقافة التقدم مقابل ثقافة التخلف,… ثقافة البصيرة والحكمة, أمام ثقافة الغريزة والأهواء.
سمات وخصائص الثقافة الإبداعية:
1= هي في سياقها العام ثقافة منتجة , مستقلة إلى حد بعيد عن أيديولوجيا السلطات الحاكمة, ومناهضة للثقافة الشفهيّة العالمة, كونها تعتمد كثيراً على القلم والعقل, وعلى الاستقراء والاستنتاج والتحليل والتركيب وبالتالي البرهان, أي هي ثقافة إبداعيّة.
2= هي ثقافة حرة أيضاً, كونها غير مقيدة بأيديولوجيا, وإن تقيدت بأيّة أيديولوجيا, فهي تعمل دائماً على جعل هذه الأيديولوجيا وعياً مطابقاً, يجب أن تنسجم دائماً مع خصوصيات الواقع دون الخضوع له كليّاً, وإنما بمساحة الحريّة التي تمتلكها, حتى يستطيع حملتها ومتبنوها إنتاج فكر تقدميّ عقلانيّ يعمل على تطوير الواقع وتنميته. لذلك هي ثقافة تجديديّة تنويريّة ضد الثبات والإطلاق والتجهيل.. أي هي تؤمن بالنسبيّة وتعتمد كليّاً على العقل النقدي.
3= هي ثقافة تؤمن بالعلمانيّة, وتعتبر الدين مكوّن أساس من مكونات الثقافة والحضارة معاً, وله دوره في تربية أفراد المجتمع على قيم الفضيلة التي ينادي بها, ولكن يجب أن لا يدخل الدين في السياسة, فالدين لله والوطن للجميع, هذا إضافة لكونها في هذا الاتجاه العلمانيّ أيضاً, تؤمن بأن الإنسان سيد نفسه وهو وحده القادر على تحديد مشاكله وتحقيق مصيره, وأن الفضيلة ليست مجردة, بل مشخصة أو ملموسة تتجلى في ممارستنا لها وليس الدعوة إليها فحسب, إنها ثقافة ترفض تقديس الأشياء والأفراد إذا ما تحول هذا المقدس إلى النيل من حريّة الإنسان والحجر على عقله وإفقاده لجوهر إنسانيته.
4= هي ثقافة تؤمن بالديمقراطيّة كحل لخلق توازنات في المجتمع في كل مستوياته, فعلى المستوى الاجتماعيّ تعمل على تحقيق المساواة بين مكونات المجتمع الدينية والعرقية, وبين الذكر والأنثى, و على مستوى الاقتصاد ستعمل على تقسيم الثروة الوطنية بشكل عادل بين أفراد المجتمع, وعلى مستوى السياسة ستعمل على تحقيق المشاركة الشعبية في إدارة الدولة, وتداول السلطة. وعلى المستوى الثقافي ستعمل على نشر وتعميق وتجذير ثقافة التنوير والعقل, وما تتضمنه هذه الثقافة من تأكيد على العدل والمساواة واحترام الرأي والرأي الأخر وحريّة التعبير, طالما هو يصب في مصلحة الوطن والمواطن.
5= هي ثقافة تعتمد كلياً على المناهج العلميّة في البحث وتقويم الظواهر, وبالتالي هي ضد التقويم العاطفيّ والوجدانيّ للظواهر, أي هي ضد الذاتيّة المفرطة والارتجال والمواقف المسبقة والكسل العقلي. وبالتالي هي مع الفهم الجدليّ والتاريخيّ للظواهر, أي هي تؤمن بالحركة والتطور والتبدل, مثلما تؤمن بالعلاقة الجدليّة بين الشكل والمضمون والجزء والكل والداخل والخارج, وأن أحوال الناس تتغير وتتبدل بشكل دائم, وهذه سنة الحياة.
كاتب وباحث من سورية.