قي مفهوم الثقافة:
الثقافة في سياقها العام: هي مجموع مأ نتجه مجتمع من المجتمعات أو أمة من الأمم من خلال علاقتهم مع الطبيعة ومع بعضهم تاريخيّاً, ويضاف للثقافة في هذا السياق كل المهارات العقليّة والجسديّة التي يكتسبها الإنسان عبر هذه العلاقة.
أم الثقافة الشفويّة فهي مجموعة الآراء والأفكار والمبادئ والرؤى والمواقف الذهنيّة والقصص والحكاية والأمثال الشعبية, دينيّة كانت أم وضعيّة, التي يتداولها الناس في أي مجتمع من المجتمعات بشكل يومي, وبكل ما تتضمنه هذه الثقافة من مواقف سلبية أو إيجابية تجاه علاقة الإنسان بنفسه والمجتمع والطبيعة. وهي ثقافة أُنتج معظمها في الزمن الماضي, وأصبحت متوراثة ولم تزل تُجتر ويتداولها الناس فيما بينهم للتعبير عن قضياهم الحياتيّة اليوميّة المباشرة في الفكر والممارسة, على اعتباره معظم مكوناتها أصبحت إلى حد بعيد قيماً (معيارية) ناجزة استطاعت أن تختزل التجربة الإنسانيّة وتضبط وتوجه في عصر إنتاجها حياة الفرد والمجتمع, وهي قادرة عند حملتها الاجتماعيين اليوم على تحقيق هذا الضبط والتوجيه حاضراً ولاحقاً, كونها جزءاً من الفردوس المفقود أيضاً الذي لم يزل يتمسك بها من يقول: (لن يصلح حال هذه الأمّة بعد أن فسد أمرها إلا بما صلح به أولها.
التأصيل المعرفي والعقيدي للثقافة الشفويّة في تاريخنا العربي:
أولاً : الاشتغال على العقيدة الجبريّة في تاريخ الدولة الأمويّة, حيث ابتدأت مع خطبة الخليفة “معاوية” الأولى التي قال فيها: (لقد ولانا الله عليكم وليس بأمركم. وفتح لنا أبواب كنوز الدنيا نعطي من نشاء ونمنع من نشاء.). وعندما طرح المعتزلة ما يخالف قوله حوربوا وقتل من رجالاتهم “غيلان الدمشقي وجعد بن درهم”.
ثانياً: جاءت هذه الثقافة الشفويّة مع تأصيل الشافعي للفقه, عندما حدد مراجعه بالقرآن والحديث والاجماع والقياس.
ففي القرآن لم يحدد لنا المحكم والمتشابه في النصوص الدينيّة. وهذا ما أوقعنا في مصالح من في قلوبهم زيع من الذين اتخذوا المتشابه من النصوص. والله حذرنا من ذلك في الآية السابعة من “آل عمران”.
في الحديث لم يبين لنا ما هو الضعيف منه وما هو الكاذب وما هو المرسل وغير ذلك. وعلى هذه الأساس أصبح الحديث الضعيف عند ابن حنبل أهم من الرأي. وهنا حورب العقل والإرادة الإنسانيّة والاجتهاد.
وفي الاجماع : وهو هنا لم يحدد من أهم أصحاب الحل والعقد في هذه المسألة فظلت القضية خلافيّة.
أما في القياس فهو اعتمد هنا على القياس الفردي, فأية ظاهرة تبرز إلى الوجود وليس لها ما يشر إليها في مصادر التشريع أعلاه, هي بدعة عند الشافعي, وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
المرجع الربع لتأصل الثقافة الشفويًة: هو موقف أبي حامد الغزالي من الفلسفة ومحاربة العقل أيضاً والتفكير العقلاني المنطقي. وهذا ما جاء في كتابه “التهافت”, الذي رد عليه ابن رشد في كتابه “تهافت التهافت”.
سمات وخصائص الثقافة الشفهيّة:
من خلال عرضنا أعلاه, نستطيع تحديد أهم سمات وخصائص هذه الثقافة:
1= هي ثقافة ماضويّة, أنتج معظمها في الزمن الماضي, وعلى حد تعبير أحد السلفين الأسلاف لم يتركوا شيئاً للأخلاف.
2 = هي ثقافة جماهيريّة, أو بتعبير آخر, هي ثقافة ظل يعاد إنتاجها واستهلاكها من قبل الجماهير الواسعة, فغالباً ما تجد الناس في كافة مفردات حياتهم اليوميّة يستشهدون بمقولاتها وقصصها وحكاياها وأمثالها الشعبيّة ونصها المقدس, خدمة لمصالحهم اليوميّة المباشرة, أو لإعطاء الفكرة التي يقولون بها أو العمل الذي يمارسونه المصداقيّة والشرعيّة, في المنزل والسوق والجامع والدائرة وغير ذلك من أماكن تواجدهم.
3= هي ثقافة تعتمد كثيراً على إيراد نص قرآني أو حديث أو رأي صحابي أو أحد التابعين أو تابعي التابعين أو فقيه, إضافة إلى إيراد قصصهم وحكايات مرتبطة بتفكيرهم أو سلوكياتهم. أي هي في معظمها ذات أصول دينيّة. وبالتالي هي الأكثر قدرة على غرس المعلومة المراد توصيلها للمستمع, لذلك لا نستغرب أن نجد أحد المشايخ يقول: (إن القصص والحكاية جنود مجندة سخرها الله لنا كي نعلم بها الناس الدين والفضيلة.).
4= هي ثقافة تركز كثيراً عند حملتها ودعاتها على القيم الأخلاقيّة, (الفضيلة), وخاصة قيم السلف الصالح, الذين أسسوا بناء الدولة الإسلاميّة وحضارتها. وبالتالي نظراً لأهميتها والخوف من تخلي الناس عنها بسبب تطور الزمن, راحت تبذل الجهود العظيمة من قبل التيار الدعوي والمدخلي وحتى الجهادي للحفاظ عليها, فحال الأمّة لن يصلح إلا بها. (ولن يُصلح حال هذه الأمة بعد أن فسد أمرها إلا بما صلح به أولها.).
5= حازت هذه الثقافة على صفة التقديس, كون معظم مكوناتها كما قلنا مرتبط بالدين. وقد شكلت مساحة واسعة من عقل ووعي المواطن العربي والمسلم.
6= هي ثقافة تقوم على التراسل (العنعنة), كون أصلها شفهي, وخاصة ما يتعلق منها في الحديث النبوي وأقوال الصحابة والتابعين وتابعي التابعي. كونهم كالنجوم الزهرة بأي واحد منهم نقتدي سنهتدي.
7= هي ثقافة تحاصر الإبداع والمبدعين الذين يريدون التجديد في علوم الدين والدنيا, وبالتالي يعتبر هؤلاء المجددون بنظر دعاة هذه الثقافة الشفويّة منحرفين إذا ما حاولوا طرح أفكار لا تتفق مع ما هو ثابت ووثوقي في هذه الثقافة, إن كان لدى المذاهب أو الفرق الدينيّة, أو لدى الأحزاب ذات الأيديولوجيات الوضعيّة أيضاً.
8= هي ثقافة تعالج تناقضات المجتمع وصراعاته الطبقيّة القائمة على الاستغلال, من منظور أخلاقي, يقوم على مناجاة الضمير والوجدان لدى هذا الفرد أو الجماعة, عندما يمارس أو يمارسون عملاً صالحاً, والعكس صحيح. فهم يطالبون الأفراد والمجتمع بضرورة التمسك بأخلاق التضحيّة ونكران الذات والإثار والمحبة والتسامح, كما مارسها السلف الصالح الذين حققوا بها العدالة والمساواة بين الناس كما يدعون, وغالباً ما يتخذون من بعض الرموز الدينيّة قدوة للحاكم والرعيّة أيضاً في نشر العدل بين الناس, دون أن يضعوا في حساباتهم خصوصيات كل مرحلة تاريخيّة من حيث ظروفها الموضوعيّة والذاتيّة ومكوناتها الاجتماعيّة وحدودها الجغرافيّة, ودرجة تطور المجتمع فيها أو تخلفه.
9= هي ثقافة تدعو إلى التسليم والامتثال لكل ما أنتج من معارف أقرها السلف في القرون الهجريّة الثلاثة الأولى, أو ما جاء في فقه (الحاكم) في الأنظمة السياسيّة, وبالتالي هي تعمل على محاربة الحريّة الفرديّة والإرادة الإنسانيّة والرأي الآخر.
10= هي ثقافة ذات توجهات أيديولوجيّة مغلقة, تعتبر الحقيقة قد أعطيت مرة واحدة وإلى الأبد, وعلينا أن نعمل دائماً على إعادة إنتاجها, وليّ عنق الواقع كي ينسجم معها. أي هي ثقافة ضد النسبيّة والحركة والتطور والتبدل.
على العموم إن ما نريد قوله في هذا الاتجاه بالنسبة للثقافة الشفوية: إنها ثقافة فرضت عبر تلك السنين الطويلة من سيادتها, العقل الإيماني والتسليمي على المواطن العربي, بحيث لم يزل النص المقدس وأقوال الأئمة والفقهاء وكبار مشايخ السلفيّة والقادة السياسيين, يشكل المرجع المعرفي والسلوكي للفرد والمجتمع مع غياب فاضح للضبط المنهجي وللرأي الآخر. أي هي من يشكل الحكم أو المعيار على أقوال الناس وسلوكياتهم وبالتالي استغلاله والاحتماء به دوماً. هذا إضافة لاستغلال وتوظيف ثقافة الخوارق والخرافة والأسطورة, وتطبيق الخاص على العام, أو الجزء على الكل في التعاطي مع أحداث التاريخ والواقع, وكذلك الانخراط بالموروث والمحافظة على الشكليات فيه, والتمسح بالرحمة والتسامح, وعند الضرورة لا بد من التمسك بالجهاد انطلاقا من التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا ما ساهم في خلق حالات من الفوضى والتناقض في هذه الثقافة الشفويّة وبخاصة الجانب الفقهي فيها على سبيل المثال لا الحصر هذا الجانب الذي يتعامل مع مسائل الوجوب والإباحة والمحرم, والعقل والنقل وطريقة الحصول على المعرفة.
كاتب وباحث من ديرالزور – سورية
d.owaid333d@gmail.com







