لا يمكننا التغاضي عن ضرورة ربط الماضي المنظور للثقافة العربية بحاضرها الصعب والبائس، لما تعانيه من تشتّت وتمزّق تمارسه الخصوصيات الثقافية الضيّقة، وتهدّده الهويات الفرعية القاتلة. وذلك لأنَّ المفهوم الرسمي العربي للظاهرة الثقافية ما يزال غامضاً ومبهماً حتى يومنا هذا، كونه خاضعاً لظروفٍ خاصة ومعطياتٍ لحظية وعوامل داخلية وخارجية ضاغطة بشكلٍ كبير. لذا فالخطاب الرسمي العربي الخاص بالثقافة يشكو من التناقض وعدم التماسك، ويؤكِّد للجميع فقدانه البوصلة، معلناً فشله أمام مقولة إنّ العولمة الاقتصادية والسوق العالمي الحر وانتشار الثقافات عبر القارات هو قضاءٌ وقدر لا يمكن الفكاك منه، شريطة الحفاظ – قدر الإمكان – على هويتنا العربية وخصوصياتها الحضارية الغنية.
إنّ هذا التشتّت وعدم التماسك يدفعاننا إلى الحديث بشفافية عن المكوّنات العربية للثقافة، انطلاقاً من موقع وطننا العربي الجغرافي وما يملكه من موارد طبيعية هائلة وثروات مالية ضخمة، وما يسير عليه من نظم سياسية خاصة، وما يرافق ذلك من أوضاع تنموية وسكانية، وطبيعة علاقاته البينية ومع بقية دول العالم وموقعه الجيوسياسي والجيوستراتيجي. ومن هنا نرى أنّ العولمة، بما تملكه من فضاء واسع، لا تعني بالضرورة القضايا نفسها التي يعانيها وطننا العربي، ولا تنطوي أيضاً على التحديات نفسها، أو على الأقل ليس بالنسبة إلى جميع مجتمعاتنا العربية. كما أنَّ التعدد الثقافي الواسع في ظل الافتراق والتباين الكبير موجود بقوة، وهو ما يميّز ثقافتنا العربية بخصوصيات لا تنفي مدلول الثقافة العربية، بل تزيده غنىً وثراءً وخصوبة، ويبقى المشترك العام هو الأهم.
المؤلم في الأمر أن يُسقَط التشتّت والضياع السياسي العربي على القضايا الثقافية العربية، وأن تُحاكَم الثقافة وحمولاتها طبقاً لمعايير السياسة وموازينها، مع التعبير الصريح عن الخصوصيات الثقافية للهويات الضيقـة بدعوى الوحدة العربية والقومية العربية، من دون الالتفات إلى خطورة تضخيم الخصوصيات الفرعية ونفي المشترك العام باسم الخصوصية، بما يؤدي إلى وأد أيّ حركة طائفية أو مذهبية أو إثنية. فالثقافة العربية تضم بين جنباتها العديد من التيارات والخصوصيات التي تصبّ في مجرى واحد منسجم دون أيّ إقصاء أو تهميش أو استبعاد.
وفي إطار معاناتنا نحن العرب من العجز والحواجز والمعيقات، لا يجدر بنا تحميل كامل مسؤولية تخلّفنا على الآخر الغربي أو على ثقافته، إذ إنّ الكثيرين ينسبون كل ما نعانيه من ظلم قومي وإجحاف إلى الآخرين، وهذا لن يمكّننا من القيام بأيّ مهام تدفع بنا إلى الأمام، بل سيبقينا أسرى لأفكار مغلقة لا تفسح لنا مجالاً للانطلاق نحو ما نصبو إليه. المطلوب أن نتخلّص سريعاً من تلك النزعة، وأن نجري التغييرات البنيوية الجوهرية في الثقافة، بما يتضمن الاعتراف بمسؤوليتنا المباشرة عن قضايانا الراهنة ومآزقنا الحالية، وأن نبحث بجدية عن مصائرنا ومستقبلنا ووجودنا المحلي والإقليمي والعالمي، وعن حقيقة هويتنا، وأن نحافظ عليها، لا سيما أننا نقف أمام تيار العولمة الجارف.
وفي المقابل، نجد العديد من التيارات العربية الأساسية والهامة التي بحثت في ظاهرة الثقافة؛ بدءاً بالتيار القومي الذي يشعر بعدم الاستقرار وعدم تمكنه من تحقيق الحلم والأهداف العربية الكبرى، فكان هذا التيار قد سعى إلى دمج الظاهرة الثقافية بالهموم العربية وما تعانيه من ضياع. وكذلك التيار الليبرالي الذي بحث في مجال التوفيقية، فاعتبر أنّ العولمة ظاهرة غير قابلة للتراجع، وأنّها الأسلوب الأقوى للبقاء عالمياً. أما التيار الماركسي، فسعى إلى الكشف عن أنساق الثقافة العولمية ونتائجها من خلال التقاءٍ مع اليسار الغربي، فيما بقي أتباعه ملتصقين بالنظم السياسية والاجتماعية، ومعظمها نظم شمولية، خلافاً لمنهج الليبراليين الجدد. أما التيار الإسلامي، فقد دمج بين عالمية الإسلام والعولمة ضمن أنساق ونظم محدَّدة.
لقد ساهم النظام الثقافي العربي في إبعادنا عن المشاركة العملية في النظام الثقافي العالمي، وجعلنا أسرى الثقافة الاستهلاكية، حيث حُوِّلت الثقافة التراثية العربية الثرية إلى قلاعٍ حصينة كي لا تطالها عمليات التغيير العالمي، فبقيت محصّنة ضمن أسوار التقليد والماضي السحيق. ولا شك في أنّ أزمة الثقافة العربية – بكل حمولاتها – جزء لا يتجزأ من أزمة الدولة العربية، وهي مرتبطة بالبنية الاجتماعية والاقتصادية. فهي أزمة وعي وفكر، إذ إنّ أزمة الفكر العربي هي ذاتها أزمة انعدام الفعل. وتتمثل أزمة الثقافة العربية المعاصرة في الخلل البنيوي الذي يربط بين الوعي والفعل، بين الوعي غير المكتمل والفعل العاجز، وبين التلفيقية والتوفيقية، بما يؤكد في النهاية عدم القدرة على اتخاذ موقف حاسم. وهي كذلك جزء من أزمة الحامل الاجتماعي للثقافة، بدءاً من تصدّع الطبقة الوسطى التي حملت فكرة النهضة، مروراً بمرحلة «البترودولار» التي شكّلت مجتمعاً غير منتج لا يعرف سوى الاستهلاك، ووصولاً إلى تشكّل الدولة الأمنية العربية الفاسدة التي أفسدت المجتمع بأكمله.
إنّ المحاولات الساعية لإنقاذ ثقافتنا العربية والمحافظة على هويتنا وخصوصياتنا تتعلق بالتنمية الشاملة، وتوسيع مجالات الديمقراطية، وتفعيل قيم الحوار مع الآخر والتعددية، وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني غير الخاضعة لسيطرة الدولة، وإنشاء نظم تعليمية مفيدة دافعة للتقدم ورافضة للتخلّف، وإطلاق العنان للطاقات المبدعة كي تفكر وتبدع وتعطي وتأخذ مكانها المناسب. كما تتطلب رفض الأمية، والعمل على المشاركة الشعبية الفاعلة، ورفض شمولية السياسات الثقافية المتّبعة.
وبالنظر إلى رؤى مختلفة حول بنية ثقافتنا العربية واندماج جزء منها مع الثقافات العولمية، يرى بعضنا أنّ العولمة تؤثر سلباً على ثقافتنا وهويتنا، بينما يرى آخرون أنّها تفتح أبواباً كانت مغلقة في الماضي وتساعدنا على مواكبة التطور المتسارع الذي وصل إليه الغرب. وفي الحقيقة، فإنّ الطرفين على صواب. ومن هنا، لا بد من إصلاح الداخل العربي قبل الحديث عن تأثير العولمة على ثقافتنا.
ولو تعمقنا أكثر في العلاقة التناظرية بين الثقافة العربية والثقافة العولمية، لوجدنا أن كثيراً من مجتمعاتنا مفتوحة على مصراعيها لغزو الثقافات الغربية التي أدت إلى تهميش اللغة العربية والتعليم، إضافة إلى عوامل أخرى، منها التركيبة السكانية في بعض الدول التي زعزعت الثقافة الوطنية، حتى بات المرء يسير في أحد الشوارع فلا يسمع أحداً يتحدث العربية، وتحيط به مطاعم ومتاجر ولهجات متعددة. كما نجد حالة التقليد الأعمى للجيل الجديد للعادات والثقافات الغربية بلا ضوابط، في ظل غياب استراتيجية ثقافية عربية شاملة، مما أدى إلى إضعاف الأخلاق والقيم والعادات، وزعزعة هويتنا العربية الأصيلة.
وبما أنّ أهدافنا الثقافية ثابتة، بينما الأدوات والوسائل تتغير، فلا بد من التحصين الداخلي وتثبيت الأخلاق والقيم والمبادئ والعادات التي نؤمن بها، مع ضرورة الانفتاح على ثقافات العالم، وإتقان استخدام وسائل الإعلام والتكنولوجيا الحديثة، وفتح مجال حرية الرأي والتعبير وتقبّل النقد والآخر على قاعدة الاحترام المتبادل، إضافة إلى دعم اللغة العربية والتعليم بكل مراحله، لتنمية الثقافة العربية وتطويرها ودفعها إلى الأمام حتى تغدو ثقافة عربية عالمية، كما كانت في مرحلة غنية من حضارتنا العربية والإسلامية.






