الثيوقراطية كواجهة: بين قداسة الخطاب وذرائعية الممارسة؛

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

 

من يتأمل في بعض التجارب السياسية المعاصرة يلحظ مفارقةً صارخة: واجهة ثيوقراطية دينية تتزيّن بشعارات القداسة، فيما المضمون الخفي ينطوي على حسابات براغماتية باردة، تحوّل الدين من مبدأ مطلق إلى أداة ذرائعية. فالسياسة هنا لا تتماهى مع الروحاني، بل تُقنّع مصالحها بأردية الميتافيزيقا.
_بين القشرة والمضمون:
الثيوقراطية بوصفها واجهة ليست مرآةً لجوهر ديني ثابت، بل قشرة رمزية، تُمنح للخطاب السياسي لتكسبه الشرعية في أعين الناس. ولعلّ ما أشار إليه ماكس فيبر في حديثه عن الشرعية الكاريزمية والدينية يوضّح كيف تتحوّل الرموز المقدسة إلى رأس مال سياسي يُستثمر في ضبط الجماهير.
_في الثقافة الغربية، قدّم نيقولا ميكيافيللي نموذجًا واضحًا حين نصح الأمير بالاستعانة بالدين لا لأنه مطلق متعالٍ، بل لأنه وسيلة فعّالة للسيطرة. وكذلك رأى كارل شميت أنّ كل المفاهيم السياسية الحديثة ما هي إلا علمنة للمفاهيم اللاهوتية، أي أنّ الدين يُستثمر في السياسة كقالب فارغ يُملأ بمصالح متغيّرة.
_ أما في الثقافة العربية الإسلامية، فلطالما استُعملت الثيوقراطية واجهة لتمرير ذرائع سياسية. فقد شهد التاريخ الأموي والعباسي استدعاء الخطاب الديني لتبرير السلطة، حيث رُفع شعار “الخلافة” باعتبارها امتدادًا للشرع، بينما كان جوهر الحكم يخضع لمنطق القوة والتحالفات والمصالح. وحتى في العصور المتأخرة، ظلّ استثمار الرموز الدينية أداة لتثبيت الحكم وتحييد المعارضة تحت طائل القداسة.
_المفارقة الفلسفية:
المفارقة أنّ ما يبدو مطلقًا (الدين، المبدأ، القداسة) يُعاد تأويله ليخدم ما هو نسبي (المصلحة، النفوذ، التوازنات السياسية). وهنا نستحضر مقولة نيتشه: “لا توجد حقائق، بل تأويلات.” فالثيوقراطية ليست بالضرورة تجسيدًا لإرادة متعالية، بل قد تكون مجرّد تأويل ذرائعي للقداسة في سياق سياسي محدّد.
_أمثلة معاصرة:
في بعض الدول التي تعلن نفسها دينية، نلحظ أنّ السياسات الاقتصادية والعلاقات الخارجية تُدار ببراغماتية مفرطة، حتى لو تعارضت مع الشعارات العقدية المعلنة.
في المقابل، نجد أنظمة غربية علمانية تستحضر الرموز الدينية في الحملات الانتخابية (كما في الولايات المتحدة)، حيث يُستثمر الدين أداةً لتحشيد القاعدة الشعبية، لا التزامًا حقيقيًا بمطلقاته.
_الخاتمة:
الثيوقراطية حين تتحوّل إلى واجهة، تنقلب إلى قناع أنطولوجي يخفي براغماتية صلبة. وهكذا يُستعمل المطلق في خدمة النسبي، وتُصبح القداسة مطيّة للذرائعية. وفي هذا يكمن خطر مزدوج: خداع الجماهير بإيهامها أنّها تخضع لمبدأ متعالٍ، فيما الواقع أنّها محكومة بحسابات لا علاقة لها بالمطلق إلا بقدر ما يبرّر حضوره الصوري.
– خلاصة :
الثقافة العربية كما الغربية قدّمت لنا شواهد لا تُحصى على أنّ الدين في السياسة قد يتحوّل من مبدأ إلى أداة، ومن غاية إلى وسيلة، ومن حقيقة متعالية إلى خطاب ذرائعي. وهنا يتجلّى السؤال: هل يمكن الحفاظ على نقاء المبدأ في فضاء السياسة، أم أنّ السياسة بطبيعتها تذيب كل قداسة في بوتقة المصلحة؟