السياسي – في قرارين متزامنين يعكسان التوجّه الدبلوماسي للجزائر في المرحلة المقبلة، كشفت مصادر متعددة عن تلقّي البنوك الجزائرية تعليمات بتعليق المعاملات المالية الخاصة بعمليات الاستيراد والتصدير من وإلى فرنسا، مع إعادة فتح نشاط الاستيراد على مصراعيه مع إسبانيا، بعد أكثر من سنتين ونصف من الغلق.
ووفق ما يتم تداوله على نطاق واسع في الجزائر، فقد تقرّر تعليق عمليات التوطين البنكي للمعاملات التجارية مع فرنسا، ابتداءً من 5 تشرين الثاني/نوفمبر. وبحسب ما نقلته صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، فإن “جمعية البنوك والمؤسسات المالية” الجزائرية عقدت اجتماعًا، يوم الإثنين 4 تشرين الثاني/نوفمبر، مع البنوك المحلية لإبلاغها بقرار جديد يقضي بوقف عمليات التصدير والاستيراد من وإلى فرنسا. وقد تم توصيل هذه التعليمات شفهياً من قِبَل الجمعية، التي ليست لديها، على المستوى الرسمي، سلطة اتخاذ مثل هذا القرار الذي يبقى من صلاحيات البنك المركزي، فيما لم يتم إصدار أي مذكرة رسمية لتوثيق هذا القرار.
وما يؤكد بدء العمل بهذا القرار أن العديد من وكلاء الشحن في الجزائر بدأوا بالفعل بإبلاغ عملائهم بهذه التدابير، وفق ما نقلت مواقع إخبارية جزائرية، ما أدى إلى وقف عمليات التوطين البنكي. ويعني ذلك بشكل عملي أن البنوك الجزائرية لن تقوم بمعالجة المدفوعات الواردة من، أو المتجهة إلى فرنسا، باستثناء البضائع التي تم شحنها قبل 4 تشرين الثاني/نوفمبر.
وتأتي هذه الخطوة الجزائرية في سياق التوترات الدبلوماسية المتصاعدة بين البلدين، في أعقاب القرار الفرنسي الأخير الداعم لخطة الحكم الذاتي المغربية في الصحراء الغربية، وهو الحلّ الذي ترفضه الجزائر، التي تدعم حق الصحراويين في تقرير مصيرهم وفق مقررات الأمم المتحدة.
وبدأت الأزمة بين الجزائر وفرنسا فعلياً بالظهور منذ تموز/يوليو الماضي، حينما وجّه الرئيسُ الفرنسي إيمانويل ماكرون رسالة للعاهل المغربي يدعم فيها خطة الحكم الذاتي المغربية، كحلٍّ وحيد لقضية الصحراء الغربية. وقد استنكر الجانب الجزائري هذا الموقف، مؤكداً أنه سيؤثّر سلباً على العلاقات الثنائية.
ورداً على ذلك، سحبت الجزائر سفيرَها لدى فرنسا، ما زاد من توتر الأجواء بين البلدين.
ومؤخراً، أعاد ماكرون التأكيد على دعمه لموقف المغرب بشأن الصحراء الغربية، خلال زيارته للرباط في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ما عمّق الخلاف أكثر مع الجزائر، والتي كانت قد بدأت، قبل مدة، باتخاذ تدابير اقتصادية عقابية، منها استبعاد الشركات الفرنسية من مناقصات القمح. وبالفعل، تأثرت الواردات الجزائرية من القمح الفرنسي، إذ شهدت تراجعاً بنسبة 80% في 2023، مقارنةً بالعام الذي سبقه، حيث بلغت 166 مليون يورو فقط، بعد أن كانت تصل إلى 834 مليون يورو في 2022، حيث تقوم الجزائر بإحلال وارداتها من فرنسا بالقمح الروسي.
وينذر قرار الجزائر بتعليق الاستيراد من فرنسا بتداعيات كبيرة على البلدين، نظراً لعلاقاتهما التجارية القوية، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بينهما نحو 11.8 مليار يورو في 2023. وتعدّ فرنسا ثاني أكبر مورد للجزائر، وثالث أكبر مستورد من الجزائر. ويميل الميزان التجاري بين البلدين لصالح الجزائر. فقد بلغت صادرات الجزائر إلى فرنسا حوالي 7.3 مليار يورو، منها 6 مليارات يورو من صادرات المحروقات، بينما استوردت الجزائر من فرنسا بضائع بقيمة 4.49 مليار يورو.
ويتوقع أن تؤدي هذه الخطوة إلى تفاقم الخسائر على الشركات الفرنسية، في ظل التوقّعات بتحوّل الشركات الجزائرية للبحث عن موردين وشركاء تجاريين من خارج فرنسا.
وقد يكون الشريك الأوروبي المفضّل للجزائر في المرحلة المقبلة، إلى جانب إيطاليا، هو إسبانيا، التي تستعدّ العلاقات الاقتصادية معها للعودة إلى كامل قوتها. والسبب أن السلطات الجزائرية قرّرت أخيراً رفع التجميد عن عمليات التوطين البنكي مع إسبانيا، بعد أكثر من عامين من القيود التجارية الصارمة التي فرضتها على التعاملات المالية والتجارية مع هذا البلد. ويأتي هذا القرار بتوجيه من بنك الجزائر، الذي أصدر تعميماً للبنوك الوطنية يطلب منها استئناف العمليات التجارية مع إسبانيا بشكل طبيعي مع الالتزام بالتنظيمات المتعلقة بعمليات الصرف الأجنبي.
وتعود أزمة التوتر التجاري بين البلدين إلى حزيران/يونيو 2022، حين قررت الجزائر تجميد عمليات التوطين البنكي المتعلقة بالتجارة الخارجية مع مدريد، وذلك كرد فعل على تغيير الحكومة الإسبانية لموقفها التاريخي تجاه قضية الصحراء الغربية، حيث دعمت مدريد، في ذلك الوقت، الموقف المغربي، ما أثار استياء الجزائر ودفعها إلى فرض هذه القيود كإجراءات اقتصادية عقابية.
ونتيجة لذلك، تكبّدت الشركات الإسبانية، وفق ما تؤكده إحصائيات نقلتْها صحف إسبانية، خسائر جسيمة تجاوزت 3.8 مليار يورو سنوياً. وقد تسبّبَ التجميد في إرجاع كافة الحاويات القادمة من الموانئ الإسبانية، ما عرقل سلاسل التوريد، وأضرَّ بالقطاعات الإسبانية التي تعتمد على السوق الجزائرية، وهو ما دفع الحكومة الإسبانية إلى اللجوء إلى الاتحاد الأوروبي للضغط على الجزائر لحل الأزمة وإعادة العلاقات التجارية إلى طبيعتها.
وفي كانون الثاني/يناير الماضي، أصدرت الجزائر استثناءات محدودة، منها السماح باستيراد اللحوم والإسمنت من إسبانيا، إلا أن التجميد بقي سارياً على معظم القطاعات، ما دفع بعضَ الشركات الإسبانية إلى البحث عن طرق بديلة لتجاوز الحظر، بما في ذلك تمرير بضائعها عبر دول مجاورة مثل البرتغال وإيطاليا.
ويعكس قرار رفع القيود بالكامل تحسّناً في العلاقات الجزائرية الإسبانية، والذي بدأت بوادره تظهر مع رفع عدد الرحلات الجوية بين البلدين، وتعيين الجزائر سفيراً جديداً في مدريد، نهاية العام الماضي، إلى جانب الاستحسان الجزائري الكبير للموقف الإسباني من العدوان الصهيوني على غزة.