الجزائر لم تتغيّر… فلسطين في القلب والعقيدة

د.صالح الشقباوي

لم تكن فلسطين يوماً قضية عابرة في الوعي الجزائري، ولا موقفاً ظرفياً تحكمه المصالح أو تفرضه التحالفات الدولية. فمنذ أن كانت الجزائر تحت نير الاستعمار، كانت فلسطين حاضرة في الضمير الوطني الجزائري، ومع الاستقلال تحوّل هذا الوعي إلى التزام سياسي وأخلاقي ثابت لم يتغير ولن يتغير، مهما تعاظمت التهديدات، مباشرة كانت أم غير مباشرة.
الجزائر كانت وستبقى مع فلسطين، ظالمة أو مظلومة، لأن منطقها لم يُبنَ على حسابات القوة، بل على منطق الحق. هذا ما عبّر عنه بوضوح الرئيس عبد المجيد تبون حين قال: «ما نتخلّاش عن فلسطين»، وهي عبارة لم تكن شعاراً إعلامياً عابراً، بل خلاصة عقيدة سياسية وثقافة ثورية متجذّرة في وجدان الدولة الجزائرية وشعبها.
اليوم، وفي ظل ما تتعرض له غزة من إبادة منظمة تُرتكب بصمت دولي مخزٍ، تقف الجزائر موقفاً مغايراً لمنطق الصمت والتواطؤ. تقف لتقول إن ما يجري ليس “نزاعاً” ولا “أزمة”، بل جريمة تاريخية مكتملة الأركان بحق شعب أعزل، وإن التفرّج على المجازر هو سقوط أخلاقي قبل أن يكون فشلاً سياسياً. ومن هنا، أعلنت الجزائر – دولةً وشعباً – موقفها الواضح: لن نسكت، ولن نساوم، ولن نغيّر بوصلتنا.
إن ثبات الموقف الجزائري لا يمكن فصله عن الدور الشخصي للرئيس عبد المجيد تبون، الذي لم يتعامل مع فلسطين كملف دبلوماسي قابل للمناورة، بل كقضية قناعة وعقيدة. فمواقفه نابعة من إيمانه العميق بعدالة القضية الفلسطينية، ومن انتمائه لمدرسة نوفمبرية ترى في مناهضة الاستعمار والاحتلال جزءاً من هوية الدولة الجزائرية، لا خياراً سياسياً مؤقتاً.
وليس من قبيل الصدفة أن يُربط عهد الرئيس تبون ببيان أول نوفمبر 1954، ذلك البيان الذي أسّس لثورة تحررية جعلت من دعم حركات التحرر في العالم – وعلى رأسها فلسطين – ركناً من أركان سياستها الخارجية. فالرئيس تبون جاء ليكمل مسار الدولة الوطنية ذات النفس البومديني، التي ربطت السيادة بالكرامة، والدبلوماسية بالمبدأ، والسياسة بالأخلاق.
وفي هذا السياق، يكتسب تكريم السيد عمار بن جامع بالوسام الوطني دلالة سياسية عميقة تتجاوز البعد البروتوكولي. فهذا التكريم ليس مجرد تقدير شخصي، بل رسالة واضحة بأن الجزائر تكرّم كل من خدم القيم التي تؤمن بها، وفي مقدمتها الدفاع عن الحق الفلسطيني، والانتصار للقضايا العادلة، والالتزام بالموقف المبدئي غير القابل للمساومة.
إن الجزائر، وهي تكرّم رجالاتها، وتواجه الضغوط الدولية، وتعلن انحيازها الصريح لفلسطين، إنما تعيد التأكيد على حقيقة واحدة: أن الدولة التي وُلدت من رحم الثورة لا يمكن أن تخون روح الثورة، وأن من حمل بيان نوفمبر لا يمكن أن يساوم على فلسطين، لأنها جزء من ذاكرته ووجدانه وهويته السياسية.إن الجزائر، وهي تجدد عهدها مع فلسطين، لا تفعل ذلك بدافع العاطفة وحدها، بل انطلاقاً من وعي تاريخي وضمير ثوري يرى في القضية الفلسطينية مرآةً لتجربتها التحررية الخاصة. فمن عرف معنى الاستعمار، لا يمكنه إلا أن يقف في وجهه أينما كان، ومن دفع ثمن الحرية دماً وشهداء، لا يساوم على حرية الآخرين.
في ظل الإبادة الصامتة التي تتعرض لها غزة، يبرز الموقف الجزائري بوصفه موقفاً أخلاقياً نادراً في عالم اختلت فيه الموازين، وتراجعت فيه القيم أمام منطق القوة. وهنا تثبت الجزائر، بقيادة الرئيس عبد المجيد تبون، أنها دولة لا تفصل بين السياسة والمبدأ، ولا بين السيادة والالتزام، ولا بين تاريخها الثوري وحاضرها السياسي.
ستبقى فلسطين في وجدان الجزائر قضية مركزية، لا تُختزل في ظرف، ولا تُرهقها الضغوط، ولا تُغيّرها التحولات الدولية. وستبقى الجزائر وفية لبيان أول نوفمبر، ولروح الثورة البومدينية، ولعقيدتها الثابتة في نصرة المظلوم والدفاع عن الحق، لأن من خان فلسطين خان تاريخه، ومن صمت على الإبادة فقد إنسانيته.
فالجزائر لم تتغير، ولن تتغير…
وفلسطين ستبقى بوصلتها الأخلاقية، مهما طال الزمن.:

د. صالح الشقباوي
كاتب وأكاديمي فلسطيني